الموقف من إيران وتركيا نموذج واضح لتناقض العلمانيين العرب
تناقضات التيار العلماني العربي بكافة تلاوينه وفروعه كثيرة، ولا يمكننا أن نأتي عليها جميعا في مقالة واحدة، وكنت في المقالة السابقة قد تحدثت عن جزء من تناقضات العلمانيين، ولكن التناقض يتجلّى في أوضح صوره، حين ننظر إلى موقفهم من إيران وتركيا، لا سيما في السنوات الأخيرة.
إيران بين هجاء ومدح العلمانيين
حتى زمن ليس بعيدا كان العلمانيون العرب عموما، واليساريون، وطائفة من القوميين خصوصا، يستخدمون مصطلح(الخمينية) كما استخدمت لاحقا مصطلحات أو أوصاف مثل(الطالبانية والداعشية) في سياق الاعتراض على أي ظاهرة إسلامية ومهاجمتها، حتى لو كانت الظاهرة أو المجموعة أو الفكرة لا تتوافق مع إيران والخميني في جوانب مختلفة واضحة للعيان.
وامتزج هجوم تلك المرحلة بسخرية من التشادور الذي تلبسه عموم النساء في إيران، مع طعن مستمر ساخر من ولاية الفقيه، وإعلان رفض (حكم العمائم) وخطورته، وهذا وغيره كان يغلّف بما في جعبة القوم من أعمال فنية أو أدبية، ويضاف إلى ذلك التباكي على ما يرونه مظلومية الحزب الشيوعي(توده) في إيران.
ولكن هذا انقلب تماما بعيد أحداث الثورة السورية، حيث أن من كانوا إلى الأمس القريب يهاجمون إيران ويصفونها في كل مناسبة بـ(جمهورية الظلام) صاروا إلى تأييد غير مسبوق ومستهجن للنظام الإيراني، واحتفاء برجاله وسياساته، مع أن جوهر الإدعاء والشعار المرفوع سابقا، كان رفضهم لما يرونه(ثيوقراطية) أو مرجعية دينية؛ فهل تغير النظام القائم في طهران وغدا علمانيا، أم أن هؤلاء صاروا يتبعون الولي الفقيه؟
طبعا لا ننسى تباكيهم على الأهواز(الأحواز) والتذكير بين الفينة والأخرى بالجزر الثلاث(أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى) إلى حدّ وصل فيه خطابهم إلى وضع هذه الأراضي إلى جانب فلسطين المحتلة، وذلك في سياق الخطاب الشعبوي الذي يتحدث عن الوطن العربي الكبير الذي تم احتلال أجزاء منه!
ولكن كل هذا انقلب تاريخا مؤرشفا، فقط لأن إيران قررت دعم ومساندة بشار الأسد؛ فصار معيار الانتماء القومي (العروبي) القويم أو الموقف الرافض للهيمنة في نظرهم هو:من يريد سقوط نظام الأسد، أو حتى يريد نوعا من الإصلاح والتغيير البنيوي فيه، فهو ليس عروبيا ولا مقاوما...وهذا انعكس على رؤيتهم لحركة حماس التي خاضت بعد الثورة السورية حربين مع الاحتلال الإسرائيلي، مع عشرات المواجهات المحدودة الأخرى، انطلاقا من أرض غزة، ولكن هذه الأعمال المقاومة الواضحة، لم تمنعهم من توجه الاتهامات لحماس في جوهر فكرها المقاوم، فقط لأنها لم تقف موقفهم من النظام الطائفي في سورية، وكأن معيار المقاومة ليس ما تقوم به من أعمال ضد الاحتلال بل ما هو موقفها من هذا النظام أو ذاك!
ولأن السيف أصدق إنباء من التهم الجاهزة؛ حيث أن أعمال المقاومة تتحدث عن نفسها، فقد ابتكروا وأشاعوا عن وجود تيارات داخل حماس، وأن التيار المقاوم فيها يتبع النظام السوري!
وعلى أية حال فإنهم في معرض انقلاب موقفهم في التعاطي مع إيران؛ نسوا أو تناسوا كيف عابوا فيما مضى على من كان يرى-وهم عامة الإسلاميين- وحدة العقيدة والتاريخ والمصير بين العرب والفرس، والآن صار الفرس في دائرة القومية العربية، بمجرد وقوفهم مع نظام بشار الأسد، فأي تناقض عجيب يعيشه هؤلاء؟!
وهنا وجب علينا أن نتذكر سابقة وقوف أحد فروع(حزب البعث العربي الاشتراكي) مع إيران، بينما فرع الحزب الآخر حاربها بضع سنين حربا طاحنة، وكانت أصوات جزء من هذا التيار(العروبي) تتغنى بصدام حسين، باعتباره حامي بوابة العرب الشرقية، ومجدد(القادسية) وشوكة في حلق أطماع(أحفاد كسرى) في الأرض العربية!
وكان جناح البعث في دمشق يقف موقفا معاكسا...ولقد تباكوا على صدام لما شنق، وشنوا هجوما على (عمائم إيران) التي تشارك في احتلال العراق، ثم تخندقوا معها، ونسوا تمجيد ورثاء صدام، بسبب الموقف الإيراني من الأزمة السورية...فهل اكتشفوا شيئا جديدا عن صدام حسين؟أم هل رأوا أن وجهة نظر حافظ الأسد كانت صوابا فيما يخص إيران؟
مع أتاتورك وضد أردوغان!
القوميون العرب، صفقوا للانقلاب الذي نفذته جمعية الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة وأزيح بموجبه السلطان عبد الحميد الثاني عن عرش السلطنة العثمانية، وتم الاحتفاء والخطابات المليئة بالمجاملة عند تعيين جمال باشا أحد أعمدة الانقلاب حاكما لبلاد الشام، وكما نعلم لم يطل شهر العسل، حيث سيصبح جمال باشا حائزا عند من صفقوا له بالأمس سفاحا، حيث أرسل العديد من العرب إلى المشانق...أسوق هذا للتأصيل التاريخي لعشق القوميين العرب للانقلابات العسكرية، ثم حين يكتوون بنارها يولولون، وأيضا تفنيدا لزعمهم بأنهم يقرؤون الخريطة السياسية جيدا ويستشرفون المستقبل!
وكان القوميون العرب وما زالوا يقولون بأن السلطان عبد الحميد مستبد طاغية، ولذا لم يتورعوا عن دعم الانقلاب عليه، ولكن أين هي المشانق التي نصبها عبد الحميد في ميادين بيروت أو غيرها؟
فما تذكره وتشهد عليه أراضي البلاد العربية التي بقيت تحت حكم العثمانيين في زمن هذا السلطان، هو خطوط السكة الحديد، ومنع أو على الأقل تقييد هجرة اليهود إلى فلسطين، مع كل ما يقال عن فساد وتسريب للمهاجرين آنذاك، ولكن الوضع يظل أفضل كثيرا من المراحل اللاحقة.
وصار الهجوم على السلطنة العثمانية ووصفها بالاحتلال، باستدعاء جرائم جمال باشا في سنواتها الأخيرة، ديدن القوميين العرب ومن يتبعهم من علمانيي العرب كاليساريين وغيرهم.
ولكن في المقابل كان هناك احتفاء ودعوات لتقليد نهج كمال أتاتورك فيما يرونه تحديثا للدولة والمجتمع، ومدح أتاتورك وتركيا(الكمالية) في الدول العربية وصل حدّا بالغا من المبالغة، وهو ما أثار حزن وغضب الهاربين الأتراك المتمسكين، من بطش الكماليين إلى مصر وغيرها أمثال الشيخ(مصطفى صبري).
المستهجن المستغرب هنا أن جمال باشا من مجموعة أتاتورك، وأيضا فإن أتاتورك تنكّر للعرب كثيرا، إلى حد إلغاء الأذان بالعربية، واستبدال الأبجدية اللاتينية بالعربية لكتابة اللغة التركية...ولكن كما قلت في المقال السابق، فإن العلمانيين العرب، ينظرون بإكبار وإعزاز أو على الأقل يبررون مواقف كل من يتخذ من الإسلام موقفا معاديا، قديما وحديثا!
ويحضرني هنا حوار في رواية للكاتب السوري الراحل(حنا مينة) أحداثها إبان الاحتلال الفرنسي يقول فيها أحد شخصيات الرواية المفترض أنه (مثقف) عند ذكر السلطان عبد الحميد:لا رحمة من الله عليه!...أي هناك رغبة متجذرة في بث الكراهية للسلطان حتى في موته، وحتى إبان مواجهة الفرنسيين الذين هم أعداء دولته، والتي كانت قد انتهت في الزمن الذي تتحدث عنه الرواية...فلماذا يا ترى؟!
عندما نستعرض هذه الأحداث يمكننا بسهولة بناء فهم واضح لحالة الكراهية الشديدة للرئيس رجب طيب أردوغان، وتمني كل شرّ وسوء له، وهذا ليس لما يتبجح به العلمانيون العرب بسبب (أطماع) أردوغان في الأرض العربية، بل لأنه لم يقف موقف إيران من النظام السوري، ولم يؤيد انقلاب السيسي، وتصدى لعصابات خليفة حفتر في ليبيا، ويسمح لأعضاء وقيادات من الإخوان وحماس بالإقامة في بلاده، وهنا ينبري القوم لاستحضار مظلومية العرب تحت الحكم العثماني، بل حتى تأييد مزاعم الأرمن للطعن في أردوغان.
ولمزيد من (البهارات) الدعائية يكثر العلمانيون العرب من الحديث عن عضوية تركيا في الناتو وعلاقتها بالكيان العبري، وهو ما تحدثت عنه بشيء من التفصيل في مقالي هنا في شباط/فبراير الماضي.
التناقضات المرئية في مواقف العلمانيين العرب من أي دولة أو شخصية، أكثر وأكبر من أن يحويها المقال، ولكن الخيط الناظم لمواقفهم، هو العداء للحالة الإسلامية العامة، ودعم الاستبداد والطغيان، وكل هذا ممزوج بادعاء العداء للإمبريالية والهيمنة الأمريكية...ولا يتسع المجال لتفنيد هذا الادعاء مع سهولة ذلك تفصيليا ولكن أكتفي بالقول أننا لم نجد في نزلاء غوانتانامو من يحمل فكرا علمانيا؛ وقوائم الإرهاب الأمريكية السوداء بشخوصها وتنظيماتها عموما من التيار الإسلامي؛ ولكن المنتفعين من الدعم الأمريكي بكافة أنواعه هم من التيار العلماني سواء على صعيد الأنظمة الرسمية، أو النخب والمجموعات، وأموال الدعم من USAID وغيرها لم تخصص لمن يوصفون بـ(الظلاميين) وعليه فإن على القوم البحث عن شعار جديد غير العداء لأمريكا وسياساتها ومخططاتها!
وسوم: العدد 922