إحراق الكتاب: «بنك أهداف» القرون
خلال أيام العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزّة، دمّر طيران دولة الاحتلال عشرات المكتبات العامة والخاصة ومتاجر بيع الكتب والأكشاك؛ ولم يكن ثمة غرابة أن تكون هذه القطاعات ضمن «بنك أهداف» الكيان الصهيوني لأنّ الحرب على الثقافة الفلسطينية كانت، وتظلّ، ركيزة تأسيسية في الفكر الصهيوني، أسوة بالتطهير السكاني العرقي والاستيطان وتدمير القرى والبلدات واقتلاع أشجار الزيتون. وكما اعترف الطيار الإسرائيلي «د»، في حوار مع القناة 12 الإسرائيلية، بأنّ قصف الأبراج السكنية في غزّة كان متنفساً من الإحباط في نفسه ولدى زملائه من مجرمي الحرب؛ فإننا قد نشهد، في أيّ يوم قريب أو بعيد، إقراراً مماثلاً حول الحوافز النفسية المَرَضية التي كانت وراء قصف الكتب والمكتبات.
وبين أفظع وقائع حرب الكتب في التاريخ الاستعماري الحديث، لدول وأنظمة تتفاخر بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتكريم الثقافة، تلك التي يرويها كتاب «إحراق الكتب: تاريخ الهجوم على المعرفة»، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات جون مراي، بتوقيع ريشارد أوفندن أمين مكتبات جامعة أكسفورد، والأمين السابق لمكتبات مجلس اللوردات وجامعة إدنبرة وجامعة لندن وسواها. بطل الواقعة هو الفرنسي بيير بوييه، الذي تولى رئاسة أرشيف المستعمرات الفرنسية السابقة في مدينة إكس آن بروفانس، سنة 1962؛ وقصد الجزائر، في حزيران (يونيو) من العام ذاته، قبيل نيل البلد استقلاله عن فرنسا، لأداء مهمة غير عادية: إتلاف 30 صندوقاً من الوثائق والموادّ الأرشيفية التي تدين أجهزة الأمن الفرنسية في الجزائر، وذلك عن طريق إغراقها في مياه خليج الجزائر؛ وحين استعصت الصناديق على الهبوط إلى قاع البحر، عمد بوييه إلى رشّها بمواد حارقة وأشعل فيها النار.
وثمة الكثير من المغزى، السياسي والثقافي والديني، في التاريخ الذي اكتنف إحراق مكتبة الإسكندرية؛ لأنّ تشخيص هوية الجهة التي أمرت بالحرق يعتمد، قبل الوثائق والأدلة والمعطيات، على المقاربة المنهجية والبحثية والانحيازية التي تحكم دوافع المؤرّخ. وإلى جانب مسؤولية الفتح الإسلامي لمصر، التي تتبناها معظم القراءات الغربية والاستشراقية منها بصفة خاصة؛ يستند بوييه إلى المؤرّخ الكلاسيكي الروماني بلوتارخوس (أفلوطارخوس)؛ في تأكيد مسؤولية قيصر روما عن التسبب في إحراق 700 ألف كتاب ومخطوط خلال واحدة من المواجهات العسكرية مع جماعات إسكندرانية؛ كما لا يتردد في ترجيح احتمال تدمير المكتبة بقرار من البطريرك ثيوفيليوس، في سنة 391 م، وخلال هجوم كاسح استهدف القيّمين عليها من الوثنيين.
وثمة، في المقابل، وقائع حول إحراق الكتب لا تقبل اختلاف الروايات، إذْ تحظى إجماع تامّ على حيثياتها؛ مثل محرقة الكتب التي نظمتها السلطات النازية يوم 10 أيار (مايو) 1933 في قلب برلين؛ وشهدت خطبة شهيرة ألقاها وزير الدعاية النازية جوزيف غوبلز: «لا للانحلال والفساد الأخلاقي! نعم للاحتشام والخلق القويم في العائلة وفي الدولة! إنسان المستقبل الألماني لن يكون إنسان الكتب فقط، بل إنسان الشخصية. أنتم تلقمون اللهيب روح الماضي الشرير. هذا فعل قوي، عظيم، ورمزي». وكي لا يُظنّ بأنّ العقود التي أعقبت محرقة برلين قد تكفلت بطيّ سلوك أوروبي عريق في معاداة الكتاب والأرشيف والوثيقة، يعود بوييه إلى واقعة إقدام الشرطة البريطانية، في سنة 2010، على إتلاف سجلات وبطاقات وصول ما عُرف باسم «جيل وندرش» إلى بريطانيا، للحيلولة دون حصولهم على الجنسية االبريطانية؛ وكيف أنّ التحقيق في عملية الإتلاف، سنة 2018 خلال حكومة تيريزا ماي، انتهى إلى كشف فضيحة مدوية بدل التعمية عليها.
ليست أقلّ بشاعة، بالمقارنة مع سلوك الفرنسي بوييه، عملية الإحراق المتعمد للمكتبة الوطنية والجامعية في سراييفو، يوم 25 آب (أغسطس) 1992؛ عن طريق قصف جوي استُخدمت فيه قذائف مصممة خصيصاً لإحداث أوسع نطاق ممكن من الحرائق، كما تابع سلاح الجو االصربي قصف المكان لمنع رجال الإطفاء والعاملين في المكتبة من إنقاذ مخطوطات نفيسة وآلاف الكتب النادرة. كان سلوبودان ميلوسوفيتش لا يسعى إلى تقويض المدينة وحدها، وتحويلها إلى ركام وأنقاض، بل كان مهووساً باجتثاث جذورها الحضارية والثقافية كما تختزنها رفوف المكتبة، وكما يمكن لها ذات يوم أن تعيد لأهل البوسنة والهرسك بعض ما سُلب أو نُهب أو دُمّر من ذاكرتهم وتراثهم، العابرَين للأديان كما يتوجب التنويه. ليس هذا فقط، بل لقد صدرت أوامر إلى القناصة الصرب بتعقّب واستهداف عايدة بوتوروفيتش، أبرز أخصائيي اللسانيات البوسنية، إلى أن نجحوا في اقتناصها بالفعل.
وذات يوم كانت مكتبة الكونغرس قد أقامت معرضاً بعنوان «كتب كوّنت أمريكا»، وكان بين الممنوعات، هنا وهناك في سجون الولايات المتحدة أو مكتباتها المدرسية، مؤلفات أمريكية مثل إرنست همنغواي، «لمن يقرع الجرس»، 1948؛ مرغريت ميتشل، «ذهب مع الريح»، 1936؛ جون شتاينبك، «أعناب الغضب»، 1939؛ ف. سكوت فتزجيرالد، «غاتسبي العظيم»، 1925؛ ألن غنسبرغ، «عواء»، 1956؛ ترومان كابوتي، «بدم بارد»، 1966؛ رالف إليسون، «الرجل غير المرئي»، 1952؛ أبتون سنكلير، «الغابة»، 1906؛ والت ويتمان، «أوراق العشب»، 1855؛ هرمان ملفيل، «موبي ديك»، 1851؛ ريشارد رايت، «ابن البلد»، 1940؛ ناثنييل هوثورن، «الحرف القرمزي»، 1850…
«بنك أهداف»، هنا أيضاً، كأنه يضع حرق الكتب في المرتبة الثانية!
وسوم: العدد 930