انتهت الحكاية
إذا كان لا يعلم فهو يعلم، لكنه يتصرف كأنه لا يعلم.
هذا هو الوصف الملائم لحالة السيد محمود عباس مع الانتفاضة الفلسطينية الشاملة التي انفجرت انطلاقاً من الشيخ جراح وامتدت إلى كل مكان في فلسطين، ووصلت إلى ذروتها التراجيدية مع صواريخ غزة ومقتلة الأطفال الفلسطينيين وإبادة عائلات كاملة في القطاع.
المرحلة سقطت وانتهت، وحكاية سلطة أوسلو صارت مملة.
لا أريد أن أفسر سبب تجاهل السلطة لسقوط المرحلة، فالسلطة لم تعد تعني شيئا سوى أنها بقايا خلفها زمن مضى.
فالذين حولوا «فتح» إلى أطلال لا يحق لهم البكاء على أطلال «فتح». فالأطلال لا تبكي على الأطلال، الأحياء والعشاق هم من بكوا واستبكوا ورصعوا الشعر العربي بقاموس الذكرى.
المسألة لم تعد كيفية معالجة الانقسام، فالشعب الفلسطيني أنهى الانقسام عندما انتفض في اللد ويافا وحيفا والجليل ونابلس ورام الله والخليل وجنين، والتقى بغزة على مفترقات النكبة المستمرة والمقاومة المستمرة.
المسألة هي عجز البنى السياسية والتنظيمية والفكرية عن بلورة أسئلة المرحلة الجديدة وصوغ برامج ملائمة.
إذا حاولنا تحليل السياسة الفلسطينية بصفتها صراعاً على السلطة فإننا نكون كمن يطحن الماء.
فلا وجود لسلطة أيها الناس، حتى غزة، رغم بطولات مقاوميها وصمودها فإنها لا تستطيع أن تكون سلطة.
لذلك، فإن المناورات التي نشهدها اليوم، بعد جلاء غبار القصف، لا تعني شيئا، إنها محاولة تعبئة الفراغ بالفراغ.
مناورات أنظمة عربية لاهثة خوفا على استقرارها، وأنظمة أخرى تعتقد أنها تستطيع أن تشتري الدم، أو مناورات الأمريكيين والإسرائيليين الذين يضعون شروطا على إعمار ما تهدم.
الجميع لا يريد أن يعترف بأن المرحلة انتهت.
السياسات الراهنة في فلسطين والمنطقة سوف تكون عاجزة عن لملمة أذيالها، لأنها تنطلق من افتراض خاطئ وهو أن وقف إطلاق النار في غزة أعلن نهاية المعركة.
المعركة لم تنته مع توقف القصف الوحشي على غزة، بل إن توقف المقتلة الدموية هو بداية فصل جديد من المعركة وليس نهايتها.
وهذا ما لا تستطيع العقول التي اعتادت أن تقرأ السياسة بصفتها صراعا على السلطة أن تستوعبه.
فما يدور اليوم في فلسطين يتجاوز الفهم الرائج للسياسة، أي المناورات والبحث عن مكاسب صغيرة. فالسياسات الصغيرة أضاعت الحق الفلسطيني مرتين: الأولى عام 1948 عندما جرى تقاسم ما تبقى من فلسطين بين الملكيتين الأردنية والمصرية، والثانية عندما انخرطت القيادة الفلسطينية في اللعبة على مراحل وصلت إلى ذروتها في اتفاق أوسلو البائس.
ما يدور اليوم هو صراع تاريخي لا علاقة له بحذلقة الصيغ السياسية التي تغطي بكلماتها المنمقة الجراح التي تنزف منذ سبعة عقود.
المقاومة الفلسطينية حملت في بداياتها بذرة وعي لدورها الجذري عندما طرحت مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية. صحيح أن هذا المشروع بقي اقتراحا عاما ولم يتحول إلى برنامج نضالي، لكنه حمل بذرة الوعي بأن الصراع لا يدور على الأرض فقط، بل على المعنى الإنساني العميق للنضال المقاوم. طويت صفحة هذا الاقتراح لمصلحة ما سمي براغماتية سياسية،ودارت رقصة موت وحشية حول تأويل فكرة الدولتين التي سوقت بصفتها تجسيدا للسياسة عبر الوصول إلى أنصاف الحلول.
رقصة الموت تلك انتهت باغتيال ياسر عرفات، وإعلان الجنرال شارون أن إسرائيل عادت، مع الانتفاضة الثانية التي رفعت شعار إنشاء دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، إلى خوض حرب «الاستقلال» أي إلى تجديد حرب النكبة.
السلطة التي ورثت ياسر عرفات حاولت المستحيل وانحنت إلى آخر الانحناء كي تحظى بالرضى وتنال ما يشبه الدولة على حساب كرامة الشعب الفلسطيني، وفي ظل هيمنة إسرائيلية مطلقة اسمها التنسيق الأمني، ومع خطاب يجرم مقاومة الاحتلال.
فماذا كانت النتيجة؟
صارت فتح أطلالا لفتح.
انظروا ماذ فعلتم بأنفسكم وكيف لم تتوقفوا عن محو تاريخكم. انتهت اللعبة.
«من الأول» ففلسطين محكومة بهذا الأول.
الذي فرض قوانين العودة إلى البداية بشكل دائم هو وحشية المشروع الكولونيالي الصهيوني، وجنونه القيامي، وإصراره على إخضاع المنطقة لمشروعه القائم على تحويل الأسطورة إلى تاريخ.
ما جرى في انتفاضة أيار الفلسطينية كان عودة إلى أسئلة البداية، عندما أراد الصهاينة متابعة سرقة بيوت الشيخ جرّاح معلنين أن مشروعهم النكبوي له أفق واحد هو محو الوجود الفلسطيني. وأن لغتهم العنصرية خرجت نيئة من أفواههم ورصاص بنادقهم وقذائف طائراتهم.
عندما قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلغاء الانتخابات الرئاسية والتشريعية كان يحاول أن يتفادى الخروج من السلطة.
وعندما قادت السلطة حملة ترهيب ضد قائمة الحرية التي يتزعمها الأسير مروان البرغوثي وناصر القدوة، كانت تعلم أن المسألة التي سوف تطرح ليست حول المجلس التشريعي، بل حول القيادة وانتهاء صلاحياتها، واستعداد النبض المقاوم داخل سجون الاحتلال لقيادة مرحلة جديدة اسمها مقاومة الاحتلال.
حاولت القيادة الهرب من مصير النهايات عبر تأجيل الانتخابات، فجاءت انتفاضة القدس لتعلن بصريح العبارة أن المرحلة انتهت.
لقد آن الأوان، على الرئيس محمود عباس ومجموعته الاستقالة بشرف وبأسلوب يحافظ على ما تبقى من تاريخ انتسبوا إليه في الماضي.
فالمرحلة تحتاج إلى رؤية جديدة تعيد النصاب إلى قضية شعب قرر أن لا يموت.
وسوم: العدد 931