في زمن الهزائم
ما جرى ويجري في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في الأسبوع الأخير يعيدنا إلى نظريّة معروفة في علم الاجتماع وهي "أنّ الضّحيّة تحبّ جلد ذاتها" وفي مرحلة ما قد تقدّس جلادها. ونحن بني يعرب ورثة ثقافة "الصحراء الوحشيّة" كما وصفها ابن خلدون في مقدمته الشّهيرة التي كتبها قبل ثمانية قرون، لم نخرج في القرن الحادي والعشرين عن وصف ابن خلدون لأجدادنا، أي أنّنا متمسّكون بثقافة جاهليّة ما قبل الإسلام، ولا نعي واقعنا المرير والهزائم التي نحصدها حتّى أنّنا خرجنا من التّاريخ، وأصبحنا على الهامش لأسباب عديدة، يقف في مقدّمتها الجهل المستفحل، والإنغلاق الثّقافي، ولا يزال البعض منّا يتغنّى بأنّنا "خير أمّة أخرجت للنّاس" وينسون كلمة "كنتم" التي تسبقها.
وإذا كانت قبائلنا في جاهليّة ما قبل الإسلام قد أعلنت ولاءها لإمبراطوريّتي عصرهم"الفرس والرّوم"، فإنّ غالبيّة شيوخ قبائلنا الحاليّة التي تحوّلت إلى دول، يعلنون ولاءهم للإمبراطوريّات الحاليّة. ووسائل إعلامنا المرئيّة والمقروءة والمسموعة تتحدّث عن انتصارات وهميّة، مع أنّنا غارقون في وحل الهزائم على مختلف الأصعدة، وإذا كانت قبائل الجاهلييّة الأولى تغزو بعضها بعضا وتقتل وتسبي، وتدمر وتنهب، فإنّ قبائل الجاهليّة الحاليّة لم يخرجوا أيضا عن هذه الثّقافة الوحشيّة، ومن يشكّك في صحّة ذلك فلينتبه إلى تدمير العراق، سوريّا، الصومال، اليمن، ليبيا، لبنان، صحراء سيناء المصريّة وغيرها وقتل وتشريد ملايين البشر، وما صاحب ذلك من تقسيم السّودان، وما سبق ذلك من قتل وتدمير في الجزائر.
وإذا كانت الأنظمة الحاكمة تتمسّك بكرسيّ الحكم، وتستعين بقوى أجنبيّة لحمايتها، ولا يتزحزح أيّ منهم عن كرسيّة إلا بالموت، أو بالقتل، فإنّ قيادة التّنظيمات والأحزاب الوطنيّة والإسلاميّة، والتي تعتبر نفسها ثوريّة وطلائعيّة هي الأخرى ليست استثناء، فلم تتخلّ هي الأخرى عن العقليّة العشائريّة في بنائها الدّاخليّ، لكن بطريقة تناسب العصر وإن بسذاجة، فقادتها في غالبيّتهم لا يتخلّون عن مناصبهم إلا بالموت. وإن استلموا الحكم فهم يسيرون على نفس الطّريق بل وأكثر سوءا. وإذا كانت أحزاب المعارضة في الدّول المتقدّمة تنافس بالطّرق السّلميّة على الحكم من أجل خدمة شعوبها وأوطانها، فإنّ أحزاب المعارضة عند بني يعرب لها ولاءاتها الأجنبيّة أيضا، وتعمل على استلام الحكم بالقوّة بدلا من صناديق الإقتراع. وهذا ليس غريبا على ثقافتنا الموروثة، فأبو فراس الحمداني ابن عمّ سيف الدّولة، قال قبل أحد عشر قرنا:
ونحن أناس لا توسّط عندنا...لنا الصّدر دون العالمين أو القبر
أي أنّ بني حمدان لا يرضون إلا بالإمارة والقيادة أو القتال حتّى الموت.
نحن الفلسطينيّين لسنا استثناء
ونحن الفلسطينيّين لسنا استثناء عن أشقّائنا العرب، فرغم أنّنا نعيش تحت آخر احتلال في العالم، هذا الاحتلال الذي أهلك البشر والشّجر والحجر، إلا أنّ تنظيماتنا وأحزابنا بما فيها الحزب الحاكم تتربّص ببعضها البعض وتقود الشّعب للاحتراب بطريقة محزنة، وليعذرني البعض بإضافة "مخزية" أيضا، والكلّ يتهمّ الكلّ الآخر "بالخيانة أوالكفر أو كليهما معا"، حتّى لم ينج أحد بالغ من هذه التّهمة، بمن فيهم الرّئيس الرّمز الرّاحل ياسر عرفات أبو الوطنيّة الفلسطينيّة المعاصرة، ومن المحزن أن يكون الصّدام بين قوى الأمن وقوى المعارضة صداما تخوينيّا دمويّا! والشّواهد كثيرة على ذلك! ولا ينتبه أيّ من الأطراف المتصارعة أنّ هذا الصّراع يخدم الاحتلال! وإن انتبه فإنّه يبرّر الصّدام المؤسف والمحزن بأنّه الطّريق إلى النّصر!
فهل ننتبه إلى عفن المستنقع الذي نغرق فيه، وهل يرحم قادة السّلطة الحاكمة وقادة المعارضة شعبنا الذي عانى ولا يزال يعاني الويلات منذ ما يزيد على قرن منّ الزّمان؟ والحديث يطول.
وسوم: العدد 935