عفا الله عنك لم أذنت لهم ؟ هل هي آية عتاب؟
شيخ الأزهر الأسبق
قال شيخ الأزهر العلامة الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه: " القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم"عند حديثه عن قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} وأن بعض الناس يقف عند قوله تعالى: {بشر} فيحاول التركيز عليها، وتوجيه الانتباه كله غليها، ويندفع في هذا الاتجاه المنحرف اندفاعًا لا يتناسب قط مع قوله: {يُوحَى إِلَيَّ} ويهملها إهمالًا.
وينسى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}، وينسى:" لستُ كهيئتكم"، وينسى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
وينسى أن بعض المسائل يمكن أن تكون لها حلول مختلفة كلها صحيحة: بعضها رفيق رحيم، وبعضها عادل حاسم، وإن الله سبحانه قد بيّن للأمَّة الإسلامية أن رسوله- وهو على صواب دائمًا- إنما يتخذ الحل الذي يتناسب مع ما حلَّاه الله به من الرأفة، وما فطره عليه سبحانه من الرحمة، وهو الحل الذي يتناسب مع طابع الرسالة الإسلامية العام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. والله سبحانه ببيانه ذلك في هذه المواضع التي كان من الممكن، أن يقف فيها الرسول صلوات الله عليه، مع العدالة الحاسمة، فعدل عن ذلك إلى الرأفة الرحيبة.. إن الله سبحانه ببيانه ذلك إنما يمدح الرسول، صلوات الله عليه، ويبين أن منزع الرحمة إنما هو الغالب عليه، صلوات الله عليه".
ثم قال: "ولنضرب لذلك مثلاً: إنَّ الذين ديدنهم الجدل، يتحدثون كثيراً عن قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43] ويقذفون مباشرة بقوله: إن العفو لا يكون إلا عن خطأ.
ولهؤلاء نقول: إنَّ الأساليب العربية فيها من أمثال هذا الكثير، ومنه قوله مثلاً: غفر الله لك، لمَ تشقُّ على نفسك كل هذه المشقَّة؟
عفا الله عنك، لم تعني نفسك في سبيل هؤلاء؟ وكأن القائل يقول: رضي الله عنك، لمَ ترهق نفسك كل هذا الإرهاق.
إن الآية القرآنية من هذا الوادي.
وضمَّ هذه الآية الكريمة إلى أختها التي في سورة النور: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: 62] تجد المعنى واضحاً جليًّا، وهو أن الله سبحانه فوّض الأمر لنبيِّه صلوات الله عليه، في أن يأذن لهم أولا يأذن.
ليس النبي إذن معاتباً بهذه الآية – وحاشاه – بل كان، صلى الله عليه وآله وسلم، مخيَّراً فلمَّا أذن لهم، أعلمه الله تعالى، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، ولتخلفوا بسبب نفاقهم، وأنه مع ذلك لا حرج عليه في الإذن لهم. إنها آية مدح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم غاية في الرقة... ومن غير شك قد صدر الإذن لهم عن قلب رحيم، وعن هذا القلب الرحيم، وعن هذه الرحمة الفياضة، كان الرسول صلوات الله عليه، يصدر في أحكامه، وما كان في ذلك إلا متبعاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
وهكذا الأمر في كل ما يماري فيه الممارون.
اختارها وصحَّحها ونشرها: مجد مكي
وسوم: العدد 936