منطق الاستبداد وتحويل وجهة الشعارات
دأب السياسيون النّاشئون على رفع شعارات برّاقة من قبيل تحرير الإنسان وتحرير العقل وتحرير المرأة لغاية استمالة قلوب الجماهير والظفر بإعجابهم وجلب أنظارهم إلى المشروع الجديد. ولكن ما إن يحوز هؤلاء السياسيون على ثقة النّاس ويستقيم لهم الأمر حتّى ينقلبوا على أطروحاتهم وعلى المبادئ التي بشّروا بها. فيتحوّل شعار تحرير العقل من الجهل والخرافات إلى وجهة مختلفة تماما وهي تحريره وتحرّره من كل الضوابط العقلية والمنطقية. ويتحوّل شعار تحرير الإنسان إلى تحرير المرأة وحسب. كما يتحوّل شعار تحرير المرأة من ظلم المجتمع الذكوري إلى "تحريرها" وتحرّرها من كل ضوابط الدين والقيم
فهذا بورقيبة الذي تكفّل بمهمّة التحرير ، ونصّب نفسه باني تونس الحديثة ومحرّر البلاد والعباد من الاستعمار والجهل والتخلّف والاستبداد، استبدّ بالحكم وحصر مهمّة التحرير فقط في تحرير المرأة وحسب – إذ كيف يصدّق عاقل أنّ من يستبد بالإنسان تكون له إرادة صادقة لتحرير المرأة- ثمّ إنّه قد حصر تحرير المرأة في تحرّرها التام من الالتزام بشرع الله ومن كل مظاهر الحشمة والحياء والوقار والقول الحسن.
وأول ما افتتح به بورقيبة تحرير المرأة هو أنّه قد نزع عنها حجابها وهتك سترها وأخرجها من محيطها العربي والإسلامي. فما يراد بشعار "تحرير المرأة" إنّما هو فقط تحرّرها من كلّ القيود والضوابط الأخلاقية والرمي بها في أتون العري والتبرّج وقلّة الحياء حيث صورها وهي كاسية عارية تملأ صفحات الجرائد والمجلاّت وإشهارات القنوات التلفزية. لقد أطلق يدها ولسانها في التطاول على الرجل بقبح القول والتبرّج وساهم في تفكيك أسر وعائلات لا يعلم عددها إلّا الله. ولعلّ ما أتته الإعلامية سنية الدهماني من شتم للنائب صحبي صمارة إلاّ دليل على ذلك. فهي في زمن الثورة وصفته بانّه فاقد لمقوّمات الرجولة "ماكش راجل" فكيف كان سيكون الوصف و القول لو حدث هذا في زمن بن علي /زمن الاستبداد ؟ قد يقول قائل من حقّ المدعوّة سنية الدهماني أن تردّ على عنف مادي حدث في حق عبير موسي وحق كل النساء. إلّا أنّ هذا التبرير يعطي بدوره الحجّة للنائب صحبي صمارة للرد على عنف مادي ومعنوي سلّط من طرف عبير موسي على كل النواب طيلة أكثر من سنة.
وجدير بالذكر أنّ بورقيبة وبن علي لم يكتفيا بذلك بل تماديا في إنزال أشد العقاب المادّي والمعنوي بمن تسوّل له نفسه معارضة هذه الحرية المزعومة بدعوى التعرّض لمدنية الدولة ومحاولة إجهاض مشروع التحديث بما في ذلك تحرير المرأة الذي قامت عليه دولة الاستقلال ؟ وهو ما يعني فرض مشروع "تحريري" بقوّة الاستبداد وهذه لعمري مفارقة غريبة عجيبة.
مع قيام الثورة ولغاية امتصاص غضب الجماهير تراجعت المنظومة القديمة قليلا وقدّمت اعتذاراتها عن مظالم بن علي (بمن فيهم عبير موسي) ولكنّها لم تتنصّل من المشروع التغريبي لبورقيبة وبن علي. ونادت بعدم المس بمدنية الدولة وبمشروع التحديث و مكتسبات حقوق الإنسان. كما فرضت هذه المجموعة نفسها على الثورة وعلى المشهد السياسي بالقوّة إلى حد توظيف الاغتيالات(منع تمرير قانون تحصين الثورة باغتيال شكري بالعيد ومحمد البراهمي). لذلك- في تقديري- فانّ كل ّمن البرلمانيين سامية عبّو وحسونة الناصفي و الاعلاميتين سنية الدهماني ومريم بالقاضي ولطفي العماري وحمزة البلومي والقاضية كلثوم كنّو ومن ورائهم كل الحداثيين والعلمانيين لم ينتفضوا من أجل الاحتجاج على صفع صحبي سمارة لعبير موسي وإنّما خوفا على المشروع التغريبي برمّته الذي أرساه وفرضه بورقيبة بقوّة الاستبداد. فأيّام الاستبداد البورقيبي والنوفمري كانت الفتاة تطرد من المدرسة ومن العمل بسبب ارتدائها لحجابها والتزامها بالحشمة والوقار. فهم قد ربطوا العلم والعمل والفن والرياضة بالتبرّج والانحلال وقلّة الحياء. وفرضوا على بنات المسلمين نزع الحجاب للحصول على حقوقهم التي كفلها لهم الشرع والدستور. ( ما يشبه البيع المشروط : تعرّي وإلاّ ما تقراش وما تخدمش).
واليوم في زمن الثورة يواصلون نفس التمشّي بأسلوب آخر. هذه المرّة قالوا لهم لا تنزعوا الحجاب. يكفيكم ما قاسيتموه في زمن بن علي. سنقوم نحن بالمهمّة بدلا عنكم وسننزع كل ثيابنا وسنتعرّى وما عليكم أيها المسلمون والإسلاميون إلاّ القبول بكل قبح الحداثيين المادي والمعنوي وبكل تبرّجهم وعريهم المعروض على الشعب في كل مفاصل الدولة وفي كل قنوات العار. وإلاّ سوف نتهمكم بمعاداة مشروع مدنية الدولة ودولة الحداثة ؟؟؟ فمنذ ما يزيد على السنة وعبير موسي تعربد في مجلس النواب وترذّل المشهد السياسي وتعنّف كل من اعترضها من النواب والوزراء والموظّفين. والحداثيون لم ينبسوا ببنت شفة إلاّ بما يمكن اعتباره من قبيل ذرّ الرّماد على العيون. وفي أوّل ردّة فعل على هذا "السلوك الإجرامي" من طرف النائب صحبي سمارة برزوا كلّهم ودفعة واحدة في قنوات العار(بإعلامييهم وقضاتهم وفنانيهم وخبرائهم ومفكريهم و...) وقالوا : لا للعنف ولا للانقلاب على مكتسبات الحداثة ولا لتمرير الجريمة وطالبوا بإدانة هذه الحادثة بأشد عبارات التنديد وخاصّة من الإسلاميين وطالبوا بمحاكمة النائب صحبي سمارة على فعله "الشنيع". ولذلك سارع رموز الإسلاميين كما دأبوا عليه في كل حادثة مشابهة إلى تطمين هؤلاء الجماعة بإدانة العنف وتلاوة بيانات التنديد التي تدين كل أشكال العنف وخاصّة العنف المسلّط ضدّ المرأة. كما سارع قادة الإسلاميين إلى تهنئة كل رياضية أو فنّانة متألّقة ،رغم ظهور المحتفى بهنّ في أوضاع غير محترمة أخلاقيا، وذلك حتّى لا يتهموا بمعاداة مدنية الدولة. وهو ما يذكّرني بسنوات الجمر عندما كان الإسلامي المراقب إداريا يمضي في دفتر مركز الشرطة عدّة مرات في اليوم لطمأنة الدولة ومركز الشرطة أنّه موجود وطوع بنانها وتحت الطلب وعلى ذمّتها 24/24 وأنّه لا ينوي القيام بانقلاب عليها ! ! ! ولكن لماذا يهرع الإسلاميون إلى إدانة العنف في كلّ مرّة ؟ ولماذا يسعون في كلّ مرّة إلى التأكيد بأنّهم غير متهمين ؟ فإنما صيغت القوانين المدينة للعنف حتّى لا يسلّط على المستضعفين. أمّا العنف المسلّط على المستبدّين والمستكبرين و"الباندية" ووكلاء الاستبداد فهو مقبول في سياقه. فلولا العنف ما فرّ بن علي ولولا العنف ما تخلّصت ليبيا من القذافي. فقد حان الوقت لتسمية الأشياء بأسماءها ورفع الرؤوس من تحت الرمال.
وسوم: العدد 937