أزمة السلطة الفلسطينية المالية .. الخلل والحل
منذ أن وجدت السلطة الفلسطينية في 1994 والأزمات المالية تلاحقها ، تشتد حينا ، وتخف حينا ، ودائما تعالجها بحلول جزئية أو بمسكنات ، وحينا بظلم مثلما فعلت مع موظفي غزة دون موظفي الضفة ، فصرفت لهم 70 % من رواتبهم ، ثم 50 % ، ولدواعٍ سياسية عادت فرفعت النسبة على تفاوت بين الموظفين حسب كبر الراتب أو صغره . وفي المعلومات المؤكدة أن راتب شهر يونيو الفائت صرف بالاستدانة من المصارف المحلية . فأين الخلل في كل هذه الأزمنة المزمنة ؟! وتباعا أين الحل ؟!
من أوجه الخلل : أولا : لم تنشىء السلطة منذ وجودها ، أي منذ 27 عاما ، اقتصادا إنتاجيا ، وعِوَضَه أنشأت اقتصادا استهلاكيا بتضخيم عدد موظفيها المدنيين والأمنيين تضخيما لا يلائم المجتمع ، ولا حقائق الحال السياسي ، وضاعف سوءَ هذا الاقتصاد السيء بطبيعته ضخامة رواتب كثيرين من موظفي السلطة الأمنيين والمدنيين ، وتنوع بدلاتهم . ودائما كانت أخبارٌ عن "موظفين " في الداخل وفي الخارج تصرف لهم رواتب دون توليهم وظيفة فعلية . في الاقتصاد الإنتاجي الذي يشغل العمال ، ويفتح أبواب التصدير الذي يدخل أموالا من الخارج تزيد حيوية الاقتصاد وتنميه ؛ السلطة لم تقم مصنعا واحدا ، ومن الحقائق أن الدول المانحة تحظر عليها استعمال المنح في إقامة المصانع أو المؤسسات الإنتاجية . وهي ، السلطة ، لم تتوجه في هذا المجال إلى مال الدخل المحلي من الضرائب وأموال المقاصة التي تجمعها إسرائيل بصفة ضرائب على البضائع المستوردة إلى الضفة وغزة ، وتسلمها للسلطة بعد خصم عمولة 3% منها مقابل هذا الجمع . هذا المال قادر على إقامة مصانع منتجة متنوعة ، وعدم استعمال السلطة له في هذا المجال الفائق الأهمية والحيوية يوضح أن الاقتصاد الإنتاجي خارج اهتماماتها وأولياتها . ثانيا : تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي تبعة معطلة للأول ومطلقة للثاني . ونسترجع قضية استيراد العجول التي نشبت منذ عامين حين منعت إسرائيل السلطة من شراء العجول مباشرة من الخارج بأسعار أرخص ، وأرغمتها على العودة لشرائها من المزارع الإسرائيلية . ثالثا : انعدام الفصل بين ميزانية السلطة الرسمية وميزانية حركة فتح بصفتها فصيلا من جملة فصائل فلسطينية ، ولكل فصيل ميزانيته ومصادرها . فتح بمكاتبها الحركية الكثيرة في الداخل ، ومكاتبها الإقليمية في الداخل والخارج ، وسائر نشاطاتها ؛ تعتمد على ميزانية السلطة مباشرة .
رابعا : تستولي إسرائيل على مصادر الثروة الطبيعية كالمياه في الضفة ، والغاز في بحر غزة الذي قدر بأنه يكفي الاستعمال المحلي في غزة والضفة ، ويزيد للتصدير ، وتتحكم في مسافة الصيد في بحر غزة حسب الأحوال الأمنية والسياسية ، تمنعه منعا تاما حينا ، وحينا تحدد المسافة التي تسمح بالصيد فيها متراوحة بين 6 أو 9 أو 12 ميلا بحريا ، وفي ظل هذا التحديد تطلق زوارقها أحيانا النار على زوارق الصيادين ، وتعتقل بعضهم .
خامسا : غياب عملة وطنية فلسطينية تتحكم السلطة في قوتها الشرائية انسجاما مع الظروف الاقتصادية الفلسطينية الخاصة . وهذه الظروف خاضعة لحركة أسعار ثلاث عملات هي الشيكل الإسرائيلي أولا ، والدينار الأردني والدولار الأميركي ثانيا ، و تؤثر حركة العملات الثلاث في صعودها أو هبوطها على أسعار السلع في السوق الفلسطينية ، وفي أحوال المعيشة يسرا أوعسرا .
سادسا : الهدر الزائد في ميزانية السفريات الرئاسية والدبلوماسية الفلسطينية دون مراقبة ومحاسبة تنتجان وقفا لهذا الهدر أو حدا منه . نتذكر أن نتنياهو أراد السفر في سنة ، ولمصلحة الدولة لا تنزها وترويحا ، فأخبروه أن ميزانية سفرياته الرسمية نفدت ، فلم يسافر . ونتذكر أن الراحل الكبير عبد الستار قاسم أخبرنا في مقال أن المفاوضيين الفيتناميين في سفرياتهم للتفاوض مع الأميركيين في أوروبا كانوا ينزلون في شقق الطلاب الفيتناميين لا في الفنادق الغالية الأجور ، وهذا التقشف المخالف للتترف ( من الترف ) الفلسطيني من بين مؤثرات كثيرة انتصرت بها فيتنام على أعظم قوة في التاريخ ، وصارت مع السنين قوة اقتصادية مرموقة عالميا .
سابعا : تقتطع إسرائيل من أموال المقاصة مقدار ما تدفعه السلطة لأسر الشهداء ، والأسرى والجرحى ، وفي اجتماع الأحد ، أمس ، صادق مجلسها الوزاري المصغر ( الكابينت ) على اقتطاع 597 شيكلا عن عام 2020 ، وقرر أن تكون الاقتطاعات القادمة شهرية ، ومبرر إسرائيل الباطل في هذا الاقتطاع أن الشهداء والأسرى والجرحى " إرهابيون " ، وأن السلطة يجب أن تعاقب ماليا قدر ما تدفع لهم .
ما سلف هو بعض أوجه الخلل التي أنتجت أزمات السلطة المالية التي واكبتها منذ نشأتها ،والحل هو إزالة هذه الأوجه ، وإزالتها مقيدة بإزالة الواقع السياسي الذي أنتجها . فما لم نصل فلسطينيا إلى أفق وطني فلسطيني سليم يحررنا من الاحتلال الرابض كابوسا شيطانيا وشللا محطما على كل نواحي حياتنا ، ويخلق كيانا سياسيا يخضع للمراقبة والمحاسبة فستتلاحق أزماتنا بكل أصنافها ، ومنها الأزمة المالية ، والأزمات الأخرى ما أكثرها !
وسوم: العدد 937