أعياد اللصوص وحرائق الأجساد في العراق
هل يمكن للعيد أن ينجو من براكين الحزن التي تقذف حممها في العراق؟ هل يدعه اللصوص والطغاة والطائفيون والعملاء يمر ولو مرة واحدة، بدون أن تحترق ثيابه البيضاء، وتُقطع أكفه التي تمسح على رؤوس الأطفال؟ لماذا حين يهرب الناس العليلة أجسادهم إلى مشافي العراق يكون الحرق آخر دواء لهم؟ علام الضمير غادر جميع من في مناصب السلطات الثلاث، إلى الحد الذي لحق به حتى الإحساس بالحياء؟
لكن هل يمكن الرهان على من قضى 18 عاما في رحلة البحث عن ضميره، ولم يجده؟ لماذا تصمت مراجع الدين، الذين كان لهم القول الفصل في مواقف معينة، ولصالح قوائم انتخابية محددة، وفي مباركة تنصيب شخصيات فاسدة، ولا نسمع فتوى منهم تدعو الناس لإسقاط أصحاب المحارق الممتدة على طول وعرض الوطن؟ إلى متى تبقى المنابر مشتعلة بوسواس المظلمة، بينما لا يأبه أصحاب العمائم بأجساد أتباعهم، التي تلتهمها يوميا نيران السلطة الموقدة؟
تستميحكم عذرا هذه الكلمات والجمل والسطور المتسربلة بلباس الحزن، لأنها كدّرت عليكم فرحة العيد، لكن الألم العراقي الطاغي في كل لحظة لم يدع لنعمة النسيان أدنى فرصة، كي تكون ملاذا أخيراً للعراقيين ليهربوا من واقعهم المرير. فقد بات في أعماق كل إنسان في بلاد الرافدين مدى لامتناه من الحزن والإحباط، وتعطلت أي فرصة أمامه، في أن يعيد تقييم ما يجري يوميا في سبيل أن يتشكل على نحو جديد، وأن يستمر بالحياة كباقي البشر. لكن كيف يتشكل الإنسان من جديد في هذا البلد، الذي يتمدد الظلم فيه في كل لحظة، وينفرد فوق كل شيء ويدخل كل بيت ومدينة وحي وقلب؟ نعم إنه صراع حقيقي بين الحياة والموت يعيشه هؤلاء الناس، وهي مراهنة عراقية على الوصول إلى تلك اللحظة التي يندفع فيها الإنسان بكل قوة، كي يصرخ في وجه الظلم، ويُسقط جميع الأصنام التي سلبت منه معنى الحياة، لكن لا أحد يعرف متى يحدث ذلك، وكم من الزمن سيستغرق الوصول إلى تلك الكتلة الحرجة. في لجة الانتظار ومع كل يوم حزين يمرّ يصبح الوطن مكانا باردا وموحشا بالنسبة للكثيرين. أقسى شيء على المرء
أن يصبح الشعور الطاغي هو، أنه على الرغم من أنك في وطنك، لكنك مع ذلك تشعر بالغربة، عندها يتسلل إليك شعور بأن كل ما حولك، بات غريبا عنك. وحينئذ تصبح كل أمنياتك مؤقتة، تذوب وتتراجع في أول محطة تضع نظرك عليها وتقول، إنها لحظة التغيير الممكنة، وإذا كان الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يقول «إن الحياة ليست شيئا يمضي مثل نهر، وإنما هي فرصة وحيدة لقلينا على الشوّاية، ومواصلة شي جانبنا الآخر لتسعين سنة أخرى) يبدو أن هذه المقولة باتت لافتة يحملها ويلمسها الكثير من العراقيين، في ظل هذه الطغمة الفاسدة.
بريطانيونيمرّ العيد على العراقيين وقاماتهم متسربلة بالحزن في فاجعة مشفى الحسين، بينما يقضي الطغاة أعيادهم في مدن العالم المهمة
في شهر نيسان/إبريل المنصرم احترق مشفى ابن الخطيب في بغداد، واحترقت معه أجساد أكثر من ثمانين مصابا بوباء كورونا، كانوا يتلقون العلاج فيه. وفي الأسبوع الماضي احترق مشفى الحسين في محافظة ذي قار جنوب البلاد، واحترقت معه أجساد أكثر من تسعين مصابا بوباء كورونا أيضا. وكما مضى الحادث الأول، من دون أن يلقى أي مسؤول جزاءه العادل بسبب الإهمال الذي أدى إلى الكارثة، ذهب الحادث الأخير أيضا إلى لجنة تدقق في الحادث، وإذا ما علمنا أن كل اللجان التي تشكلت في أعقاب آلاف من الكوارث التي حصلت في العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم، لم تأتِ بأي نتيجة، فمعنى ذلك أن هذا الحادث سيذهب إلى المجهول أيضا. ومع كل حادث مروع يذهب وآخر يحصل، ومع كل لجنة كاذبة ترمي حياة وحقوق الناس في سلة المهملات، ولجنة أخرى تتشكل لتسير على الطريق نفسه، يصبح الحزن والشعور بالمرارة عميقا مديدا يلمسه العراقيون لمس اليد، وكأنه قدر أبدي لا يمكن الهروب منه أو مغادرته، ولأن المأساة مأساة وطن ومجتمع، وليست حكرا على فئة دون أخرى، فإنها تصبح لدى الجميع هم الضرورة وليس هم الاختيار، فتنتقل إلى كل بيت في العراق وتصبح حتى الأفراح العائلية، والمسرات الشخصية، بطعم الهم الجمعي الكبير، لأنه حينما يسقط اليقين بفسحة الأمل، وبالغد وما بعد الغد، ترحل العقول والقلوب بعيدا عن اللحظة الآنية، لأنها أسيرة الخوف من الآتي في الساعات أو الأيام المقبلة. وهنا تستحيل الحياة إلى سجن كبير صدرت أحكام الإعدام على كل من فيه، لكن لا أحد يعرف وقت وطريقة التنفيذ، هل سيكون التنفيذ حرقا في مشفى، أو عدة رصاصات تستقر في الرأس من دراجة نارية تمرّ على مهل، أو بسرقة موارد وثروات الشعب، ورميه في جُب الفقر والجوع والحرمان حتى الموت.
إذن من الذي يمكن المراهنة عليه للخروج من قافلة الظلم والاضطهاد، الممتدة على طول وعرض خريطة هذا الوطن؟
يقول التاريخ إن السلطات المعنوية، رجال الدين والزعامات الوجاهية الأخرى، تتدخل في المراحل الوطنية الكبرى، وإن دورها يبرز عندما يحصل انسداد سياسي وأمني واجتماعي داخلي، كما أنها أيضا تتدخل عندما يتعرض الوطن للتهديد الخارجي، لكن المشكلة أن السلطات المعنوية في العراق انغرزت بالامور السياسية إلى أبعد الحدود، وأصبحت تابعا وأداة من أدوات الأحزاب الطائفية والطبقة السياسية الفاسدة في التسويق السياسي والكذب والتلفيق، وطرح المواضيع بنصف الحقيقة، وبذلك سقط اليقين الذي كان الناس يعتصمون به في الركون إلى السلطات المعنوية، كي تنقذهم مما هم فيه من ظلم واضطهاد السلطات الحاكمة. وهنا يبرز السؤال الأكثر أهمية وهو ماذا عن دور الشعب العراقي؟ وهل يمكن إيجاد تبريرات وأعذار تمنحه حق التهرب من مسؤوليته في مواجهة الطغاة واللصوص وتقرير مصيره؟ يقينا لا.. فالشعب العراقي وعبر تاريخه الممتد آلاف السنين، كان يمثل ثقلا سياسيا وتاريخيا كبيرا. وكان دوره محوريا بتزاوج العنصر البشري مع عنصر الموقع الجغرافي، ولهذا السبب كان صانعا مهما في السياسة الإقليمية للمنطقة، ومساهما بارزاً في صناعة أنماط التغيير التاريخي، ومحركاً رئيسيا للأحداث في محيطه، وبؤرة من بؤر تصدير الثقافات للعالم.
من المؤسف حقا أن يمر العيد على العراقيين وقاماتهم متسربلة بالحزن في فاجعة مشفى الحسين في ذي قار، بينما يتنعم الطغاة واللصوص بالثروات ويقضون أعيادهم مع عوائلهم وحواشيهم في مدن العالم المهمة. وبذلك لا بد أن يتذكر العراقيون جيدا المثل الذي يقول (خدعني مرة، عار عليك. تخدعني مرتين، عار عليّ ).
وسوم: العدد 938