استحالة الوحدة السورية في ظل حكم بشار الأسد
ما زال السوريون يتطلعون إلى سوريا الموحدة، وما نسمعه باستمرار من قبل جميع الدول المتوغلة في الملف السوري هو أنها حريصة على وحدة سوريا. ولكن سوريا الموحدة في ظل بقاء بشار الأسد «رئيساً» ستكون قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار في أي لحظة، لتعود دوامة العنف والعنف المضاد من جديد، بل وربما أقوى وأشرس.
الإصرار على تسويق نظام بشار الأسد، والعمل على إعادته إلى الجامعة العربية والمجتمع الدولي، مؤداه الإبقاء على سوريا مقسمة بين مناطق النفوذ الحالية، وما يترتب على ذلك من مزيد من التحلل والتعفن والتفكك. فبشار الأسد قد أصبح وبالاً على السوريين، كل السوريين ما عدا المنتفعين من الاستبداد والفساد، وهم قلة محدودة. فهو المسؤول عن تدمير البلد وتهجير السكان، وقتل نحو مليون سوري وسورية بغض النظر عن موقفهم من النظام، وتغييب مئات الآلاف. وهو لا يمتلك من القدرات والمؤهلات والصلاحيات التي تمكّنه من الاعتراف بفظاعة ما تسبب فيه، بل ما زال يتحدث عن الانتصارات الوهمية، وما زال يتوعّد السوريين بعقلية عدائية سادية، لم ولن تتناسب مع مسؤوليات أي رئيس دولة من واجباته الأولى الحفاظ على وحد الشعب والبلد، وطمأنة الجميع، والتعامل مع الجميع بحسٍ وطني يتجاوز كل الخلافات والاختلافات.
من يريد أن يساعد السوريين حقاً، ويرغب في وضع حدٍ لمحنتهم، ومن يهمه الاستقرار في سوريا والمنطقة، فعليه أن يفكر أولاً في إبعاد بشار الأسد. فتسويق هذا الشخص، بعد كل ما اقترفه من جرائم بحق السوريين، وقبل ذلك بحق العراقيين واللبنانيين، سيكون رسالة إرهاب واحباط ليس للشعب السوري وحده، بل ولشعوب المنطقة والعالم، فحواها أن الحاكم يستطيع أن يفعل أي شيء بشعبه، طالما أنه قد رتب أموره مع القوى الدولية المؤثرة التي قد كلّفته بمهام التحكّم والضبط، ورعاية المصالح، مقابل غض النظر عن استبداده وفساده وجرائمه.
وعلى الرغم من الجهود الروسية العديدة التي استهدفت فك العزلة عن حكم بشار، والحصول على الدعم الدولي في ميدان إعادة الإعمار؛ لم تتبلور أي نتائج واقعية يمكن أن تفسر بأنها بداية الحلحلة إذا صح التعبير. فالسوريون الذين أرغموا على ترك ديارهم قبل عشر سنوات، وهم يشكلون أكثر من نصف السكان، نتيجة الحرب الوحشية التي أعلنها بشار عليهم للحفاظ على سلطته، قد فقدوا الثقة بصورة نهائية بوعود بشار، وأهليته لقيادة البلاد نحو المصالحة الوطنية والوحدة الوطنية. فهو ما زال يستقوي عليهم بالقوات الإيرانية والميليشيات المذهبية التابعة لها. كما يستقوي بالوجود العسكري الروسي. هذا مع أهمية التمييز بين الهدفين الروسي والإيراني وراء التدخل في سوريا الذي وصل إلى مستوى التدخل في أدق التفاصيل.
فالوجود العسكري الروسي الذي بدأ، بعد التفاهم مع الأمريكان، على نطاق واسع في خريف عام 2015 يندرج ضمن إطار الاستراتيجية الروسية العامة التي تتخذ من سوريا ورقة من أوراق الضغط في إطار الصفقات المقبلة مع الأمريكيين، وميداناً يُستخدم لتعزيز الدور في منطقة شرقي المتوسط، ونقطة انطلاق للعودة إلى المنطقة، وبناء العلاقات مع دولها على اساس المصالح.
هذا في حين أن هدف إيران من وجودها في سوريا هو جزء من مشروعها التوسعي في الإقليم. وقد بدأ هذا الوجود تحت غطاء ثقافي تبشيري وسياسي في بدايات «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» في عهد حافظ الأسد. إلا أن هذا الوجود تعاظم أكثر في عهد وارثه بشار الأسد الذي أطلق يد الإيرانيين في لبنان وسوريا؛ ونسق مع الإيرانيين في سبيل تفجير الأوضاع في العراق. حتى تحول عراق ما بعد صدام إلى حديقة خلفية للنظام الإيراني الذي يستنزف طاقات البلد عبر تحميل الميزانية العراقية نفقات بناء وتسليح ودفع رواتب الميليشيات المذهبية الخاضعة للسلطة الإيرانية. وكذلك عبر عمليات الفساد الكبرى التي كان وراءها المتنفذون في تلك الميليشيات، وما زالوا. كما استفاد النظام الإيراني من أموال العراق لتمويل مشاريعه التخريبية. هذا في حين يعاني العراقيون من فقدان أبسط مقومات العيش الكريم، ويُشار هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى المياه الصالحة للشرب، والكهرباء، والحد الأدنى المقبول من الخدمات الصحية.
فإيران لا تريد دولاً قوية مستقرة، قادرة على تحقيق التنمية المستمرة لصالح شعوبها في جوارها، وحتى في المنطقة. لإن مثل هذه الدول ستحترم سيادتها، وإرادة شعوبها، ولن تسمح للنظام الإيراني أن يعبث بمقدراتها وسيادتها.
الروس إذا أرادوا، يمكنهم من خلال التفاهم مع الأمريكان وضع حدٍ للتمدد الإيراني المتعدد الأوجه في سوريا، فهو نفوذ لا يعتمد فقط على القوات العسكرية الإيرانية والميليشيات التابعة لها، خاصة ميليشيات «حزب الله»؛ وإنما يعتمد وسائل أخرى أيضاً، منها التغلغل في الأجهزة الأمنية والجيش، إلى جانب التجنيس والتغيير المذهبي، وشراء العقارات أو الاستيلاء عليها عن طريق عملاء وشركاء محليين، وانتشار في مختلف المناطق. فالروس إذا أرادوا حماية مصالحهم في سوريا والمنطقة، وعبر التفاهم مع الأمريكان على ملفات أخرى سواء في المنطقة أم في العالم، يمكنهم ممارسة الضغوط من أجل الحد من النفوذ الإيراني المتصاعد، بل وضع المقدمات لإخراج إيران من سوريا. ومثل هذه الخطوة تتناغم مع توجهات القسم الأعظم من السوريين، بمن فيهم أولئك الذين يصنفون عادة في خانة «الموالاة»؛ فهؤلاء قد وصلوا إلى قناعة تامة بعد تجربة عقود من التخريب الإيراني في بلادهم أن المشروع الإيراني التوسعي، وما يطرحه من توجهات، ويفرض من سلوكيات، لا يستقيم مع الثقافة السورية، ولا مع المصالح السورية الاستراتيجية. بل يتخذ من سوريا بمواردها البشرية والطبيعية أداة من أدوات المشروع الإيراني الذي أدى، ويؤدي، إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها؛ كما أدى إلى استنزاف الطاقات، وسد الآفاق أمام مشاريع التنمية التي كان من شانها النهوض بالمنطقة، وتأمين مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
غير أن هذه الخطوة لن تكتمل، ولن تقنع غالبية السوريين من دون رفع غطاء الدعم عن بشار الأسد الذي قد بات اسمه مرتبطاً في منظور السوريين بكل الجرائم التي ارتكبت ضدهم من قتل وتدمير وتهجير وتغييب، وبجميع أنواع الأسلحة، وباستخدام الميليشيات المذهبية لقتل السوريين وزرع الأحقاد بينهم.
وبتحقيق هذه الخطوة، تكون الأبواب قد فُتحت أمام حوارات ومفاوضات حقيقية بين السوريين من مختلف التوجهات والانتماءات. حوارات تسعى بالفعل للوصول إلى حل وطني جامع، يؤسس لمرحلة جديدة تبدأ بمصالحة وطنية شاملة، وتسير بموجب خارطة طريق واضحة المعالم، يجد فيها السوريون حلاً ممكناً يطمئن الجميع، سواء في الداخل الوطني أم في الجوار الإقليمي، وحتى على المستوى الدولي.
وستنعكس آثار هذا الحل الإيجابية من دون شك على الوضعين اللبناني والعراقي، بل ستدفع الأوضاع في المنطقة بأسرها نحو الاستقرار والتهدئة؛ لتعود إيران نفسها إلى قوة إقليمية فاعلة لا مزعزعة للاستقرار، تتفاعل ايجاباً، لا حرباً وصداماً، مع القوى الإقليمية الأخرى في المنطقة على أساس احترام حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة.
أما إذا استمرت الأوضاع الراهنة على حالها، فإننا سنتجه إما إلى تقسيم فعلي، أو إلى المزيد من الصراع والتنافس مستقبلاً، لأن أي محاولة، ومن قبل أي كان، لفرض شخص يعد المسؤول الأول عن الحطام السوري، شخص يفتقر إلى الأهلية والصلاحية والشرعية، مؤداه تقسيم البلاد والشعب مهما كانت الشعارات، وبصرف النظر عن ماهية المجاملات ومستوى النفاق.
وسوم: العدد 942