المشروعان الإيراني والروسي في سوريا.. تضارب مصالح أم تبادل أدوار؟
أعاد ما يحدث في محافظة درعا الجدل إلى الواجهة مجدّدا حول طبيعة الدوريْن الإيراني والروسي في سوريا، وما إذا كان هناك تضارب بين المشروعين أم إن العلاقة بينهما مجرد تبادل أدوار.
ففي وقت ترزح فيه درعا البلد تحت حصار مجموعات عسكرية محسوبة على إيران مثل "قوات الغيث" التابعة لـ"الفرقة الرابعة"، تقوم روسيا بالإشراف على العملية التفاوضية وتعقد لقاءات مع الفعاليات الشعبية في المنطقة، ليعود الجدل حول تضارب مصالح بين موسكو وطهران يمكن الاستفادة منه، يقابله رأي آخر يرى أن ما يحدث منسَّق من قبلُ بين الجانبين، وهو في سياق قيام إيران بما تعجز عنه روسيا.
ولا شك في أن الملف السوري كان محلًّا لكثير من التقاطعات الروسية-الإيرانية في المصالح، فقد اشتركت الدولتان في منع سقوط النظام السوري، ودعمتاه عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. وما يجمع بين الطرفين هو مواجهة امتداد النفوذ الغربي إلى سوريا، إذ تنظر كل من طهران وموسكو إلى الغرب على أنه عدو مشترك، وبشكل أدقّ يبدو أن العداء المشترك للولايات المتحدة الأميركية هو أهم عوامل التقارب في كثير من ملفات المنطقة.
ويمكن القول إن العلاقات بين كل من موسكو وطهران تتأثر سلبًا وإيجابًا بحجم الضغوط التي تمارسها واشنطن على الجانبين أو على الإيرانيين بوجه خاص، وهذا كان واضحًا منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، والعودة إلى سياسة الضغط القصوى من خلال العقوبات.
وتتفق كل من إيران وروسيا على ضرورة تقويض سيطرة الحركات الإسلامية السُّنيّة، لأنهما تنظران إليها على أنها تهديدات محتملة على الأمن القومي للبلدين، خشية امتداد تأثيرها إلى آسيا الوسطى والقوقاز وحوض بحر قزوين.
بالمقابل، فإن التناقض بين مصالح موسكو وطهران في الملف السوري أكبر من أن يتم إخفاؤه، فبعد أن اعتمد الروس خلال السنوات الأولى لتدخُّلهم العسكري المباشر في سوريا على النفوذ الإيراني الأمني والعسكري، شرعوا في خطواتهم الخاصة من أجل هيكلة مؤسسة عسكرية منضبطة، بعيدًا عن الحالة المليشياوية التي أفرزها التدخل الإيراني، ومن الخطوات الروسية المهمة في هذا السياق حلّ الفصائل المحلية العاملة ضمن ما يسمى "الدفاع الوطني"، الذي تم تشكيله من فكرة إيرانية بامتياز، نشأت بمقترح من الجنرال حسين همداني الذي يُعدّ أحد أبرز القادة المؤسّسين للحرس الثوري، وكان قد تولى قيادة الفرقة "27 محمد رسول الله"، ثم قيادة "فيلق محمد رسول الله"، قبل أن يلقى مصرعه في سوريا.
وبينما تتمسك إيران تمسكًا واضحًا بشخص بشار الأسد، ولا تُبدي أي مرونة بالحديث عن مصيره، تلوّح روسيا بإمكانية التخلي عنه إذا استجابت المعارضة السورية لمسارها السياسي، وكان آخر هذه العروض ما أعلنه المبعوث الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف من استعداد بلاده لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مايو/أيار 2021 في حالة اتفاق النظام والمعارضة على دستور جديد أو إجراء إصلاح دستوري.
ظهرت روسيا بشكل مستمر أنها المتحكم الأساسي في قرار النظام السوري والمسار السياسي للأزمة، فهي تشرف على مسار اللجنة الدستورية، الذي يبدو أن طهران غير متحمسة له، كما أن موسكو شرعت في تأجيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سوريا بضعة أشهر، قبل أن تعطي الضوء الأخضر لإجرائها وفق حساباتها السياسية الخاصة.
ومن المهم لموسكو أن تبلغ سوريا مرحلة الاستقرار، لأن هذا يتيح لها استقطاب أموال إعادة الإعمار الدولية، لكن هذا الاستقرار يعني بالضرورة ضبط تحركات المليشيات المرتبطة بإيران، وإخراج المقاتلين الأجانب الذين جلبتهم طهران من أفغانستان وباكستان ولبنان وحتى المقاتلين الإيرانيين من أجل تأسيس نفوذ لها، والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الجغرافية السورية، والهيمنة على محافظات حساسة لتأمين المصالح الإيرانية، مستخدمة من أجل ذلك أسلوب التغيير الديمغرافي، في حين تجد إيران أن الوضع الحالي هو الأفضل لبقاء مصالحها والحفاظ عليها، حيث إنها تنشط في "حالة الفوضى".
أموال إعادة الإعمار التي سيكون مصدرها الأساسي من الخليج العربي ودول الاتحاد الأوروبي، وربما الصين، لن تتمكن روسيا من استقطابها من دون تعهدات حقيقية تتضمن تقليص نفوذ إيران، وقد أظهرت موسكو أكثر من مرة استعدادها لذلك مقابل تفاهمات دولية تحقّق لها مكاسب في الملف السوري، فقد عقد بوتين تفاهمات مع نتنياهو أتاحت لإسرائيل الاستهداف المتكرر للمليشيات الإيرانية على الأراضي السورية من دون اعتراضات إيرانية تُذكر، ودخلت موسكو في تفاهم "سوتشي" مع تركيا بعيدًا عن المصالح الإيرانية، كما أنها استثمرت على نحو متكرر في ورقة المليشيات الإيرانية لحسابات خاصة بها، ويبدو هذا ما يحدث حاليًّا في الجنوب السوري، حيث تلوح روسيا بعصا المليشيات الإيرانية من أجل تحقيق مكاسب جديدة.
يُضاف إلى كل ما سبق ملف مهم يُبرز تضارب المصالح الإيرانية-الروسية في سوريا، وهو ملف الصراع على الثروات والطاقة، إذ تضع روسيا نصب أعينها النفط والغاز في حوض البحر المتوسط، والسعي للاستحواذ على مخزون الفوسفات الطبيعي، وتلك التحركات تتصادم مع المساعي الإيرانية الرامية إلى استكمال خط الغاز باتجاه أوروبا عبر البحر المتوسط.
والخلاصة: أن ظروف المواجهة في سوريا والتهديدات المشتركة دفعت كلًّا من روسيا وإيران إلى التقارب والعمل المشترك لمنع سقوط النظام السوري، ولكن تبيَّن لاحقًا أن الأسباب التي دفعت كل طرف من الأطراف إلى اتخاذ هذه الخطوة كانت مختلفة عنها لدى الآخر، فإيران تجد في ضعف نظام الحكم الحالي فرصة لتعزيز هيمنتها الفعلية على الأراضي السورية، في حين أن موسكو باتت تمسك تمامًا بورقة مصير بشار الأسد لتفاوض عليها الدول الغربية بغرض التفاهم على ملف العقوبات المفروضة على موسكو وحدود دورها الدولي والقبول بنفوذها في سوريا.
ومن المرجح أن نشهد تصاعدًا في الخلافات الإيرانية-الروسية كلما اقترب المشهد في سوريا من الاستقرار، إذ إن روسيا لن تتمكن من تحويل ما حققته ميدانيا إلى مكاسب سياسية ثابتة من دون حالة استقرار مستدامة، وإظهار استجابة للمصالح الأمنية والاقتصادية لبلدان الجوار والمحور العربي الرافض للتمدد الإيراني، الذي تعوّل روسيا عليه وخاصة الدول الخليجية في تقديم أموال دعم إعادة الإعمار.
ولكن هل سيصبّ صدام الطرفين بالضرورة في مصلحة الشعب السوري لأنهما ستكونان حريصتين على عدم استثمار الأطراف الأخرى في هذا الصدام، ومحاولة إدارته لتفويت الفرصة على المعارضة والدول المساندة لها؟ أم إن التناقض في مصلحتَيْ كل من الروس والإيرانيين لا يمكن أن يُفضي إلى ما هو ليس في مصلحة الشعب السوري لأن كسر التحالف الهشّ والحذر بين روسيا وإيران سيحطّم معه معادلات كثيرة، متأثرًا بتحالفين آخرين أكثر أهمية للروس، الأول الروسي الإسرائيلي، والثاني الإيراني الصيني؟ في الثاني تجد روسيا أن فتحها الباب لإيران لمزيد من التغلغل قد فتح شهية الصين، التي تتقدم ليس فقط في جمهوريات السوفيات الإسلامية السابقة من باب الاقتصاد، بل أيضًا تحاول التوسُّع من خلال الأسد في سوريا، مما أغضب الروس إلى حد كبير، وكان لذلك الموقف الروسي انعكاسه على الامتناع عن دعم الأسد في أحداث حوران الأخيرة.
أما التحالف الروسي الإسرائيلي فيقوم أساسًا على تحويل سوريا، حسب تعبير أروقة "سي آي إيه" (CIA)، إلى "مصيدة للجرذان"، ومن بين تلك الجرذان بالطبع الحرسُ الثوري الإيراني وحزب الله وما يتبع لهما. لذلك فإن تناقض الموقفين الروسي والإيراني يخدم أكثر ويقوّي تفاهم موسكو مع تل أبيب الخاص بسوريا. ومحصّلة ذلك أن أي تناقض في موقف اللاعبين الفاعلين المؤثرين في الملف السوري سيُحدث ارتدادات حتمية تخلخل الاستقرار الذي يطمح إليه الأسد.
وفي النهاية فإذا كانت الأطراف الإقليمية والدولية تراهن على تناقض المصالح الروسية الإيرانية وتضاربها، فهل يسهم ذلك في تغيير سلوك النظام السوري وتفكيك أركانه بعدما ساعدت روسيا وإيران هذا النظام في تفكيك سوريا بشكل كامل؟
وسوم: العدد 943