الأردن بين «الهلال الشيعي» وأعباء «المنطقة العازلة»
في مطلع أيلول (سبتمبر) 2003 قام الملك الأردني عبد الله الثاني بزيارة إلى إيران، كانت الأولى لأيّ عاهل أردني منذ قيام الثورة الإسلامية في سنة 1979، ولم يكن خافياً أنّ أحد أبرز العناصر التي سهّلت الزيارة كان وجود الرئيس الإيراني محمد خاتمي في المنصب، بما عناه من احتواء فريقه على عدد من المسؤولين «الإصلاحيين» أو «المعتدلين». ولن يمرّ سوى عام وبضع أسابيع حتى أطلق العاهل الأردني، خلال حوار مع صحيفة «واشنطن بوست» على هامش زيارة إلى البيت الأبيض، مصطلح «الهلال الشيعي» الذي سوف يصبح شهيراً بعدئذ، فيستخدمه كثيرون ممن توجسوا خيفة من تمدد إيران، المذهبي والعسكري والسياسي والميليشياتي، من طهران إلى دمشق، مروراً ببغداد وبيروت.
بعد 17 سنة، خلال زيارة إلى واشنطن كانت الأولى التي دشنت لقاء أي مسؤول عربي رفيع مع الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، لم يسْتَعِد العاهل الأردني المصطلح الشهير في منطوقه الحرفي، لكنه استأنف عواقبه عملياً حين ناقش مخاطر ما يجري في جنوب سوريا، على الحدود الشمالية للمملكة الهاشمية؛ بين الفرقة الرابعة في جيش النظام والميليشيات المذهبية الموالية لإيران من جهة، وبعض ما تبقى من فصائل مسلحة وقوى وتجمعات أهلية معارضة في منطقة حوران من جهة ثانية.
في صياغة أخرى، كانت أطراف الهلال إياه قد عبرت العاصمة دمشق، بعد البادية السورية المحاذية للعراق، وبلغت تخوم الأردن؛ وتهدد، استطراداً، بإعادة تفعيل الملفات القديمة ذاتها التي توجّس منها العاهل الأردني حين أطلق المصطلح، وعلى نحو قد يكون أبعد أثراً بالنظر إلى أقواس النفوذ الإيراني المتعاظمة المتوسعة، أكثر من العام 2004 على الأقلّ. وبهذا المعنى فإنّ دبلوماسية عمّان المنفتحة مجدداً على الملفّ الإيراني، عبر البوّابة السورية، ليست على صلة بأية حنكة خاصة يمكن أن يمتلكها، أو يفتقر إليها، وزير الخارجية الأردني؛ بقدر ما تبدو ترجمة، أو مقاربة عملية، لهواجس الملك القديمة وقد اتخذت اليوم صفة استعجال تقتضي مزيجاً من التبصّر والتحوّط وحُسْن قراءة المشهد، ثمّ المزيد من الواقعية في فهم المتغيرات الإقليمية والدولية من حول الهلال القديم وقد تجدّد أو تمدّد أو استقرّ هنا وهناك.
صحيح، من جانب آخر، أنّ الأردن لم يعد تلك «المنطقة العازلة»، حسب تعبير أساطين الانتداب البريطاني، إلا بمعنى أعمق ارتباطاً بالجوار الإقليمي، خاصة الضفة الغربية والعراق وسوريا، وكذلك بمعنى أنه بلد يمكن أن يربط أو يعزل في مستويات شتى جيو – سياسية وتاريخية، وكذلك ديمغرافية بالنظر إلى التعدد المتميز لأعراقه وعشائره والمحتد الأصلي لأبنائه. ذلك فرض على البلد أن يكون إزاء تقاطع نيران مختلفة، معظمها عابر للحدود وللمصالح والمعادلات المحلية؛ كما في الحال الراهنة إزاء أحداث حوران، وقبلها ضغوطات الإدارة الأمريكية السابقة بصدد «صفقة القرن»، وقبلهما ضغوطات حشر الأردن في خطط الحصار على قطر…
ليس أقلّ صحة أنّ تحويل مفهوم المنطقة العازلة إلى أخرى رابطة ومنفتحة ومتصلة يستدعي الكثير من تسخير الأوراق الكفيلة بتحقيق مستوى عالٍ من مرونة التوسط واحتساب المخاطر في آن، لأنّ تاريخ العلاقات الأردنية – الإيرانية لا يبشّر بخير عميم؛ إذا تذكّر المرء وقائع العام 2000 حين تذمرت عمّان رسمياً من محاولات إيرانية لتجنيد عناصر تتولى تنفيذ مهامّ عسكرية ضدّ أهداف إسرائيلية انطلاقاً من المملكة، فكيف إذا استذكر المرء أيضاً إلحاح طهران على السماح بالحجيج الديني الشيعي إلى مرقد الصحابي جعفر بن أبي طالب جنوب الأردن أو إقامة حسينية في مؤتة.
أمر حميد، بالطبع، أن يواصل الأردن الخروج من إسار «المنطقة العازلة» ضمن دبلوماسية صائبة ومنفتحة؛ ولعلّ من الصائب أكثر، أخلاقياً على الأقلّ، ألا تتناسى المملكة واجباتها تجاه الشعوب ذاتها التي يواصل «الهلال الشيعي» اختراق أنظمتها وسماءاتها
وسوم: العدد 944