انقلاب السودان وأوراق التوت المتساقطة

لم تعد تنطبق على الفريق أول عبد الفتاح البرهان صفة رئيس مجلس السيادة في السودان لأنه بالأمس قاد انقلاباً كامل الأوصاف، بشراكة معلنة مع محمد حمدان دقلو قائد «قوات الدعم السريع» ونفر من الجنرالات وضباط الأمن والشرطة. وكما هي العادة المتأصلة لدى جميع قادة الانقلابات العسكرية حرص البرهان على تغطية الحدث بسلسلة من أوراق التوت الصفراء التي تساقطت سريعاً فلم تفلح في تغطية الهوية الفعلية لإجراءات فاضحة مثل إعلان حال الطوارئ وحلّ مجلسَيْ السيادة والوزراء واختطاف رئيس الحكومة عبد الله حمدوك وزوجته واعتقال عدد من الوزراء حفاة في ثياب النوم وتجميد أعمال لجنة التمكين وإقالة جميع ولاة الولايات والتعهد بتشكيل «حكومة كفاءات وطنية مستقلة».

والسهولة التي اتصفت بها أعمال تنفيذ الانقلاب أثبتت أن الأجهزة العسكرية والأمنية والشرطية في السودان لم يطرأ عليها أي تغيير إصلاحي جوهري ينأى بها عن الخضوع للدولة العميقة أو يزودها بصلاحيات ملموسة تتيح لها مقاومة الدوس على الشرعية، التي كانت حتى ساعة انقلاب الأمس متمثلة في الوثيقة الدستورية. ولم يكن خالياً من المغزى العميق حرص البرهان على تسمية «قوات الدعم السريع» بالاسم في بيانه المتلفز الذي حاول خلاله إقناع الرأي العام السوداني بأن ما يشهده البلد ليس أكثر من «خطوات» تستهدف إنقاذ السودان من «خطر وشيك».

فهذه القوات كانت وتظل علامة فارقة على استمرار تراث القمع والتسلط والاستبداد والفساد الذي أرساه نظام عمر حسن البشير، ولقد تعاقبت الأدلة على أدائها دور الواجهة العسكرية لقوى الثورة المضادة، ولم يكن غريباً أن واحدة من أبرز نقاط الخلاف بين المكونين المدني والعسكري داخل المجلس السيادي كانت رغبة البرهان والجنرالات في تجنيب «الدعم السريع» أي مساءلة على جرائم صريحة ارتكبتها بحق متظاهرين سلميين خلال محطات مختلفة من الفترة الانتقالية. كذلك لم يكن مفاجئاً أن المفارز التي اعتقلت الوزراء وممثلي المكونات المدنية كانت خليطاً من منتسبي الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة، على نحو أعاد التذكير بتركة «الدفاع الشعبي» وتنظيمات حزب «المؤتمر الوطني» الأمنية زمن البشير.

ولقد توفرت لانقلاب الأمس مقومات نجاح نابعة أيضاً من تقصير بعض مكونات الجناح المدني في المجلس السيادي، سواء بسبب انقساماتها التي أخذت تتزايد وتتعمق خلال الأشهر الأخيرة، أو بسبب غموض برامج بعض أطرافها واحتدام الصراعات البينية على هذا الخط أو ذاك، أو انشقاقاتها التي تعاقبت وتفاقمت وبلغت درجة تشكيل مكونات موازية داخل «قوى الحرية والتغيير» ذاتها. وأما الأخطر في هذا الصدد فقد كان ابتعاد غالبية الأجنحة المدنية عن نبض الشارع الشعبي السوداني ومطالبه وشعاراته الكبرى، والاكتفاء بمقارعة الجناح العسكري أو التماهي مع هذا الجنرال أو ذاك، فضلاً عن التصارع على منصب هنا أو منصب هناك.

الأخطار المحدقة بالسودان كياناً وشعباً وثورة مدنية ليست قليلة، ولا يلوح أن العاجل فيها سيقتصر على مواجهات بين عسكر وشعب أو شارع وشارع أو عنف مفتوح مقابل احتجاج سلمي، في بلد اعتاد جيشه على الانقلابات، وندر أن جنرالاته تطهروا من شهوة السلطة والتسلط.

وسوم: العدد 952