مؤسف ومحزن جدا أن تظل ذهنية التفاضل بين الناس على أسس واهية
مؤسف ومحزن جدا أن تظل ذهنية التفاضل بين الناس على أسس واهية متحكمة في الكثير منهم ومثيرة للنعرات إلى غاية هذا العصر المتأخر من عمر البشرية
لا يوجد دين من الأديان ، أو عقيدة من العقائد حسم فيها أمر التفاضل بين بني آدم من خلال بيان حقيقته بكل جلاء ووضوح كما فعل الإسلام الذي هو الدين عند الله عز وجل بشهادته على ذلك في الرسالة التي ختمت بها رسالاته سبحانه وتعالى إلى الناس عبر مراحل تاريخية من عمر البشرية ، وهي رسالة أراد لها الاستمرار في توجيه خلقه إلى صراطه المستقيم على اختلاف أجناسهم ،وأعراقهم، وألوانهم، وألسنتهم إلى أن تقوم الساعة ، فيرجعون إليه ليسالوا ويحاسبوا على ما عملوا في فترة الحياة الدنيا التي جعلها لابتلائهم . وهذا الحسم في أمر التفاضل بين الناس يشير إليه قوله تعالى :
(( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ، فبهذا الأسلوب الجلي والصريح أنهى الله تعالى كل الخرافات والأوهام المتعلقة بالتفاضل بين الناس على أسس واهية عرقا وجنسا ولسانا ...، والتي ظلت البشرية عبر عصور طويلة ،ولا زالت كذلك مع شديد الأسف متشبثة بها مع أنها تزعم أنها بلغت أقصى درجات النضج الفكري ، والتطورالحضاري .
وهذه الآية الكريمة فيها نداء للناس جمعيا دون تعيين عرق من الأعراق أو جنس من الأجناس ، وفيها إخبار لهم بطبيعة خلقهم من ذكر واحد وأنثى واحدة ، وإخبار بطبيعة تجمعهم في شكل شعوب وقبائل ، وفي هذا إشارة إلى تركيبة المجتمعات البشرية المتكونة من شعوبها ومن قبائل ، وذلك من جعل الله عز وجل ، وليس من فعل البشر ، وفيها أيضا إخبار بالغاية التي من أجلها وجدوا وهي التعارف سواء بمعنى التحقق من بعضهم البعض بغرض التقارب، والتساكن، والتعامل ،والتسامح، والتحّاب ... أو بمعنى التعامل فيما بينهم بالمعروف وهو الخير، والتعاون على ذلك . وتنتهي الآية الكريمة بالحسم الواضح في أمر التفاضل الوحيد الممكن بين البشر ، والذي قوامه تقوى الله عز وجل وذلك بالاستقامة على صراطه المستقيم .
وكلما انحرف التفاضل بين البشر عن معيار التقوى الذي حدده الله سبحانه وتعالى وجعلت له معايير الدماء، والأعراق، والأجناس، والألسنة إلا وانحرف عن الهدف، فحل محل التعارف بكل دلالاته التنافر بكل دلالته أيضا من تباعد ، وتصارع ، وتكاره ، وتحارب ، وتعامل بالشر ...
ولقد تعدد التفاضل بين البشر المنحرف عن التفاضل المشروع الذي ارتضاه لهم خالقهم سبحانه وتعالى عبر تاريخ البشرية الطويل، فكان في الماضي الموغل في القدم تفاضلا على أساس ألوانهم ، وعلى أساس أعراقهم وأجناسهم ، وعلى أساس ألسنتهم حيث يزعم كل قبيل أو شعب أنه الأعلى والأرقى عرقا ، والأحسن لونا ، والأرفع لسانا والأذكى عقلا ، والأكثر فهما ، والأسبق تحضرا .... وانتقل بعد ذلك التفاضل بين الشعوب والقبائل المختلفة إلى تفاضل داخل الشعب الواحد والقبيل الواحد ، وهذا منتهى التعصب المثير للسخرية حيث يصير المجتمع الواحد يفضل فيه الأفراد بعضهم بعضا بسبب عصبية مردها إلى انتنماء قبلي أو اختلاف لغوي ...
و بعد ذلك انتقل التفاضل المؤسس على أسس العرق و الجنس واللون واللسان إلى تفاضل على أساس المعتقد ، ثم اختلط هذا بذاك ليكرس تفاضلا مركبا ترتبت عنه حروب وصراعات طويلة ، وشرور كبيرة ، ولا زال الناس إلى يوم هذا يتفاضلون بالاعتماد على أسس واهية هدمها الله عز وجل في كتابه الكريم من أساسها .
ومن المؤسف والمحزن جدا أن المسلمين الذين من المفروض أن يكون التفاضل فيما بينهم على أساس واحد ووحيد هو تقوى الله عز وجل كما أمر بذلك جل شأنه ،ابتدعوا أسسا أخرى للتفاضل فيما بينهم ، أخطرها التمذهب عقديا أوفقهيا ، وأطرقيا ، وصاروا يتعالى بذلك بعضهم على بعض متنكبين أساس التفاضل الحقيقي والوحيد ، وهو تقوى الله عز وجل .
ومن المؤسف والمحزن جدا أيضا أن يضيف بعضهم إلى التفاضل على أساس التمذهب التفاضل بالأعراق والألسنة ، وهو أمر ينذر بوخيم العواقب في بعض بلاد المسلمين ، و الذي ينفخ في نعراته أعداء الأمة المسلمة ليكون وسيلة تفكيك أوصالها ، وتشتيت أبنائها ، والذهاب بريحها .
ومعلوم أن الذين يتمسكون بالتفاضل على الأسس الواهية التي نقضها الله عز وجل إنما يبتغون بذلك نسف الأساس الوحيد الذي أراده الله عز وجل للناس جميعا وهو التقوى ، ووسيلتهم في ذلك العمل على صد الناس عن المصدر الذي يحيل على هذا الأساس الوحيد في التفاضل بين الناس ، وهو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لجعل اهتمامهم ينصب على الأسس الواهية التي تفرق وتشتت ، ولا تجمع ، وتذكي نيران العصبيات ، وننفخ فيها ،ولتؤجج نيران الصراعات والصدام ، ومشاعر الكراهية والبغضاء .
وتحت ذريعة ما يسمى بالتعدد والتنوع والغنى الثقافي ، وهو من قبيل الحق الذي يراد به باطل بحيث يموه به البعض للدفع في اتجاه اعتماد التفاضل على الأسس العرقية واللسانية الواهية ، علما بأن التعدد والتنوع والغنى الثقافي لا علاقة له بالتفاضل بل هو تكامل بين المتعدد والمتنوع دون أن يكون بينهما تفاضل تكون نتيجته نشوء الاستعلاء والاستكبار بينهما.
ومن الغريب أن يشكو بعض من يعتمدون الأسس الواهية عرقا أو لغة أو اعتقادا في تفاضلهم على الأغيار من معاداة هؤلاء لهم وكرههم ،علما بأن الذي يجلب لهم في الحقيقة العداوة والكراهية هو اعتمادهم تلك الأسس الواهية لأن التفاضل على أساسها ينتهي حتما وبالضرورة إلى التعالي والرغبة في التحكم والهيمنة والسيطرة ، وهذا ما يفضي إلى الكراهية والعداوة والبغضاء ، والعدوان ، والتناحر .
ويجدر بالأمة المسلمة اليوم أن تصحح أولا معيار التفاضل فيما بين أفرادها ثم بعد ذلك فيما بين أفرادها وغيرهم من أفراد الأمم الأخرى التي لا تدين بدينها ، وألا تجاري تلك الأمم في اعتماد أسس التفاضل الواهية على أسس الأعراق والأجناس والألوان ، والألسنة ، وأن تشتهر بين كل الأمم بأن معيارها الوحيد للتفاضل هو ما أقره الله عز وجل في محكم التنزيل، وهو معيار التقوى ، وهذا من شأنه أن يشعر تلك الأمم بأنها متخلفة عن أمة الإسلام حضاريا طالما اعتمدت أسس التفاضل الواهية . وما جعل الله تعالى أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس بسبب أعراقها أو ألونها أو ألسنتها بل بسبب تقواها ، وهو ما يعكسه قوله جل وعلا : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) ، وفي قوله هذا سبحانه وتعالى ما يحسم في أمر خيرية أمة الإسلام المتمثلة في الأمر بالمعروف أو الخير، والنهي عن المنكر أو الشر ، والإيمان بالله عزوجل ، وهو ما يعني تقواه ، وليس في هذا تفاضل أسسه عرقية أو جنسية أو لسانية .
وسوم: العدد 964