«أنتم أفضل من غيركم»… أداة تخدير الشعوب
يحكى أن رجلاً قال بحضور أعرابي: «ما أشد وجع الضرس»، فقال الأعرابي: «كل داء أشد داء»، فالمريض يتشاغل بمرضه ويغفل عما سواه من قدر الأمن والعافية، ينصرف اهتمامه إلى ما ألمّ به من مرض، ولا يرى أن هناك من هو أشد منه مرضا.
الكلام على النحو السابق، يقال دائما في معرض مواساة الآخرين، يذكّرونهم دائما بأهمية النظر في أمور الحياة لمن هم أقل منهم، كما جاء في الحديث النبوي الشريف (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ الله).
لكن منطق (أنتم أفضل من غيركم)، صار أداة سياسية في أيدي الأنظمة، تخدّر بها الشعوب، وتخمد بها تطلعاتهم إلى الحياة الكريمة، التي ينالون فيها قسطا كافيا من الحرية، ويتمتعون خلالها بثروات بلادهم، ويقومون في ظلها بدورهم في المشاركة الحية في تسيير الحياة داخل المجتمع الواحد.
(أنتم أفضل من غيركم) هو ستار الدخان، أو ذلك الغطاء الأسود الذي تتدثّر به الأنظمة الفاشلة في إدارة البلاد، الأنظمة التي فتحت أبواب الفساد المالي على مصاريعها، ونهبت مقدرات الشعوب، وسمحت لحيتان الاقتصاد والسياسة بالإتيان على الأخضر واليابس، وترْك الفتات للشعوب، حتى إذا ما صرخت الشعوب للأوضاع الاقتصادية الكارثية وانعدام الأمن الغذائي وغلاء الأسعار، قالوا لهم أنتم أفضل من غيركم، انظروا إلى مخيمات اللاجئين، انظروا إلى المجاعات في افريقيا، انظروا إلى الطوابير الممتدة من أجل حفانٍ من القمح. وحينها تنبري لها عمائم السلطان، السواعد اليمنى للأنظمة المستبدة، الذين يشرعنون الظلم والبغي، فيحيكون خطابهم الديني الدعوي التوعوي، وفق منطق (أنتم أفضل من غيركم)، يحدثون الشعوب كثيرا، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يربط الحجر على بطنه من الجوع، وأن أصحابه الكرام كانوا يأكلون ورق الشجر. سيحدثونهم كثيرا عن الفقراء الذين يدخلون الجنة قبل الأغنياء، وأن مفاهيم الغنى والشبع والرفاهية قد تكون وبالا على الإنسان، تفسد عليه دينه ودنياه وآخرته، سيحدثونهم عن أهل الصّفة، سيحشدون أمامهم كل النصوص التي تحض على القناعة والرضا. لكنهم تحت مظلة (أنتم أفضل من غيركم) سيتجنبون النصوص كافة، التي تبين أهمية المال في المجتمع الإسلامي، سيتجاهلون قول النبي المختار صلى الله عليه وسلم (نعم المال الصالح للعبد الصالح)، ولا قوله (اليد العليا خير من اليد السفلى)، ولا عن شأن الصحابة كما بينه الإمام الشاطبي «كان الغنى من مقاصدهم، والتكسب من شأنهم»، سيخبئون عنهم أن الصحابة كان منهم من يتاجر بالملايين، ويقرض بالملايين. أولئك أصحاب الدعوة الفاجرة التي تكرس للظلم الاجتماعي بدعوى الزهد في الدنيا، لملء بطون أسيادهم، والتعمية على فشلهم وتبديدهم ثروات الشعوب.
وتحت شعار (أنتم أفضل من غيركم)، ستصرخ حناجر الإعلاميين من فوق أبراجهم العاجية، لتحدث الناس عن إجراءات التقشف ودعم سياسات الحكومة الاقتصادية، والصبر والتحمل على شظف العيش، في الوقت الذي ينالون أجرهم على قرع الطبول بالملايين.
(أنتم أفضل من غيركم)، ستُشهر أمام الجماهير العاطلة، التي لا توفر لهم الدولة فرص العمل إلا على النحو الذي قال به الشاعر هشام الجخ (اللقمة بإهانة)، التي لا تكفي إلا لشراء الخبز. لكن تتجه أنظار الجماهير البائسة إلى الذين يتولون المناصب والوظائف بـ»البراطيل»، وهي التسمية التي اشتهرت بها آفة بيع المناصب والوظائف لمن يدفع أكثر في عهد الحكم الفاطمي لمصر، حتى أن الوزير طلائع بن رزيك، كان يجعل لكل ولاية سعرا محددا، عند ذلك تدرك الجماهير أنها خُدعت تحت شعار «أنتم أفضل من غيركم»، وأنها ضحية الفساد المالي والسياسي.
(أنتم أفضل من غيركم)، ستجدها حاضرة بقوة عندما تتحدث الشعوب عن الديمقراطية والحرية والإصلاح، حينها سيكون الجواب جاهزا: احمدوا الله على ما أنتم فيه من نعم، هل رأيتم جيرانكم الذين أتت الحروب الداخلية في أوطانهم على الأخضر واليابس فيها، وصاروا مشردين في الأرض تؤويهم الخيام، ويطلبون الخبز خارج حدودهم، كل ذلك لأنهم استبدوا في طموحاتهم فاصطدموا بأهل السلطة، أو يحدثونهم عن حقبة مختلفة مرت بها البلاد في عهود حكام سابقين، كيف كانت فترات استبداد وظلم وعسف، فاحمدوا الله على هذا القسط من الحرية الذي لم تنله الأجيال السابقة.
ويحكم، لا تعارضوا أنظمتكم، فتوهنوا بلادكم، وتشيعوا فيها الفوضى، وتصير مطمعا للأعداء، أرأيتم إلى ذلك البلد الذي صار مسرحا عسكريا تعبث فيه الجيوش التي أتت من كل صوب، ألم يحدث كل هذا العبث بعد أن غُدر بزعيمها الذي حفظ لها لُحمتها عقودا؟ أتودون أن تصيروا إلى ما صارت إليه هذه البلاد التي ظلت طيلة عقد ـ وإلى اليوم – بلا نظام سياسي مستقر، صراع أحزاب وجماعات، ومركبا له ألف قبطان، والنتيجة تردي الأحوال المعيشية، ومعاناة المجتمع جراء عدم الاستقرار، لم يتحملوا زعيمهم المستبد، فجاءهم جمْع من المستبدين، فإياكم وأن تكرروا أخطاء هذه الشعوب، واحمدوا الله فأنتم أفضل من غيركم.
منطق عفن، وصيغة خطاب مقززة، فكأن على الشعوب أن تظل منقوصة الحقوق، وكأنه لا يحق لها أن تعيش حياة كريمة في جميع المناحي والمجالات والأصعدة. ومن المضحكات المبكيات، أن هذه الحكومات التي جرّت الشعوب من نواصيها إلى أوحال التغريب، لم تأخذ من الغرب سوى قيمه التي تعارض وتصطدم بثقافتنا الأم، والتي لا علاقة لها بالتقدم والرقي والتطور، بينما أغفلت عناية الغرب بكفالة الحريات وإرساء قواعد الديمقراطية. أما إذا لم تُجدِ سياسة (أنتم أفضل من غيركم) نفعا مع هذه الشعوب، فأبواب السجون مأوى، واللحد والثرى مقام، والبلاد لا مكان فيها لأعداء البلاد فليخرجوا منها صاغرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.