موازنة باراك بين ثمانينية إسرائيل وثمانينية دول أخرى موازنة فاسدة
كل سنة ، في ذكرى قيام دولتهم في الوطن الفلسطيني ، يتساءل الإسرائيليون على تباين مستوياتهم إن كانوا سيحتفلون بهذه الذكري في السنة التالية ؛ ذلك أن هاجس زوالها يهيمن بسواده الكثيف على عقولهم وقلوبهم ، ويتذكرون أن المملكتين اليهوديتين السابقتين بدأ تفككهما في مستهل ثمانينات عمريهما ، والأولى هي مملكة داود _ عليه السلام _ بين عامي 1050 _ 930 ق . م . والثانية مملكة الحشمونائيم بين عامي 140 _ 37 ق . م . . وسيرا على هذه السُنة ؛ كتب إيهود باراك رئيس وزراء إسرائيل الأسبق مقالا لم يبتعد فيه إلا قليلا عن كآبة التشاؤم الإسرائيلي السنوي موضحا أن لعنة التفكك والزوال في الثمانين من عمر نشأة الدول طالت أميركا التي استقلت عن بريطانيا في 1776 ، واندلعت فيها نار الحرب الأهلية بين عامي 1861 _ 1865 بين كونفدرالية الجنوب واتحادية الشمال ، وخلفت حوالي 750 ألف قتيل من الجانبين ، وانتهت بانتصار اتحادية الشمال ، وتكوين الولايات المتحدة الأميركية الحالية . وفات باراك أن أميركا لم تزل بعد تلك الحرب المخيفة ، بل تضاعفت قوتها حتى صارت بعد الحرب العالمية الثانية وإلى يوم الناس هذا أقوى دولة في العالم مهما بدا في السنوات الأخيرة من أعراض ضعفها ، واقترابها من خسارة تفردها بصفة الدولة الأقوى عالميا . فموازنته هنا فاسدة باطلة ، وفسادها وبطلانها يلحقان بموازناته الأخرى بين إسرائيل وإيطاليا وألمانيا والاتحاد السوفيتي . إيطاليا ما زالت موجودة بعد هزيمة فاشيتها الموسولونية في الحرب العالمية الثانية واحتلال قوات الحلفاء لأراضيها في 1943 ، وألمانيا ما زالت موجودة بعد هزيمة نازيتها الهتلرية في ذات الحرب التي تعاون فيها موسوليني الفاشي مع هتلر النازي ، وألمانيا اليوم أقوى دولة أوروبية اقتصادا وجيشا ، ولو أزيلت عنها قيود ضبط قوتها العسكرية التي فرضها الحلفاء المنتصرون لصارت قوة عسكرية عظمى . وروسيا الاتحادية التي استقلت بهويتها الروسية الوطنية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي قوة عالمية كبرى اليوم ، وبقية جمهوريات الاتحاد السوفيتي موجودة في حال أو أخرى . إسرائيل حالة متفردة . إن زالت فلا قيامة لها بعد زوالها بأي كيفية من كيفية بقاء الدول والكيانات السياسية ، وعلة تفرد حالتها أنها لم تنشأ في أرض تخصها ، ونشأت اغتصابا واعتداء وافتراء في أرض الشعب الفلسطيني مضمرة التوسع بالقوة والاعتداء في أراضٍ عربية أخرى جريا خلف سراب حلم الدولة المترامية من فرات العراق في آسيا إلى نيل مصر في أفريقيا . واعتداؤها وحلمها لا يفارقانها ، ولا يهمها وجود ثمانية ملايين فلسطينيي أكثر من ستة ملايين مستوطنيها هما يحذرها من وبال تجاهل وجودهم في ذات الأرض ، وتقنع نفسها بأن تطرفها في جرائمها ضدهم سيزيلهم من وطنهم ، وسيرسخ أوتاد وجودها فيه . وحقا هي تشبه أميركا في النشأة في وطن شعب آخر إلا أن الملابسات التاريخية والحقائق الجغرافية والبشرية والحضارية التي زامنت نشأة أميركا تختلف كليا عن مثيلتها التي تزامن إسرائيل . في الحالة الأميركية عملت على تقوية أميركا وديمومتها وصيرورتها إلى ما هي عليه اليوم ، ومهما تراجعت عناصر قوتها فلن يفضي تراجعها إلى ضعفها ضعفا ينأى بها كثيرا عن منزلة الدولة الكبرى ، وقطعا لن يفضي بها إلى الزوال ، وبقاؤها وتصاعد قوتها الشاملة منذ استقلالها في 1776 إلى اليوم يؤكد بقاء تلك المنزلة المرموقة المأمونة . إسرائيل لم تصل ولن تصل إلى هذه المنزلة ما يفتح طريق تفككها وزوالها سائرة على خطا مملكتي داود والحشمونائيم . وليس من المغالاة والإفراط في التمني التقديرُ أن أعراض التفكك الممهد للزوال يتلاحق ظهورها عليها ، ومن هذه الأعراض : أولا : تفردها من كل دول العالم بالحديث الدائم عن هذا الزوال . ما من دولة في العالم تتحدث عن زوالها سوى إسرائيل ، وهذا الحديث فضح لشك عميق في أسس وجودها ، وله تأثير متواصل في تقريب نهايتها لشعور مستوطنيها أنها دار فرار لا دار قرار ، وأنها تشبه السفينة التي بدأت تغرق ، وحفظا للبقاء يجب أن يهجرها قبطانها وركبانها .
ثانيا : سرعة انهيارها نفسيا ساسة وعسكرا واستخبارات وإعلاما ومستوطنين عند أي عملية فلسطينية تقتل أو تجرح عددا ضئيلا من مستوطنيها ، ويرافق الانهيار النفسي تراشق الاتهامات بالتقصير والإخفاق بين قياداتها متجاهلين خطأ أو عمدا أن إحباطهم لبعض العمليات الفلسطينية لن يحل صراعهم المصيري مع الفلسطينيين . وكثير من دول العالم ، ومنها أميركا ، تحدث فيها عمليات قتل وجرح تقوم بها عناصر داخلية ، وأحيانا من دول مجاورة ، ويعالج ما حدث بهدوء ، ويمضي كل شيء فيها مثلما مضى قبل العملية . ما يحدث في إسرائيل مختلف كليا . تضربها عاصفة هستيريا من قدميها إلى رأسها ، وتدور تنقب عن علاج سريع لما حدث مركزة على عنصر تنسب إليه وحده الحدث الذي لا يفلت من تصنيفها له في قائمة الإرهاب . بعد عملية إلعاد ركزت كل غضبها على السنوار رئيس حركة حماس ، وعزت العملية إلى دعوته الفلسطينيين لمقاومة اعتدائها عليهم بأي سلاح ، ناري أو أبيض . كأن الفلسطينيين لم يقاوموها قبل السنوار ، ولن يقاوموها إذا اغتالته _ لاسمح الله _ .
ثالثا : تناقص عدد المهاجرين إليها ، وزيادة عدد المهاجرين المهاجرين منها .. لا أحد يحب أن يعيش في دولة قليلة الأمن ، وشبان اليوم في كل العالم ينفرون من الالتحاق بالجيش ، ولا يتحمسون للحروب حتى باسم الوطنية ، ويريدون أن يغرفوا من متع الحياة وملاهيها ما يقدرون على غرفة ، وإسرائيل دولة تجنيد للشبان والشابات .
رابعا : احتضان دول التطبيع العربي العلني والسري ، والجديد والقديم لها ؛ لن يكون وثيقة تأمين لبقائها في المنطقة ، وهذه الدول ذاتها ليست مأمونة البقاء ، ولو استطاعت شعوبها التحرر من قبضة حكامها المستبدين لما أسفت على واحد منهم . وهذه الشعوب تمقت إسرائيل مثلما تمقت أولئك الحكام .
خامسا : اختفت في العالم الصورة المزورة لإسرائيل صاحبة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ؛ إسرائيل الصغيرة الشجاعة التي تهزم أعداءها الكثيرين . الصورة الحالية ، الصورة الحقيقية ، صورة دولة عنصرية كريهة سرقت وطن الشعب الفلسطيني ، ولا تتوقف عن اضطهاده وقتله وسرقة القليل الباقي في حوزته من أرضه . ودولة بهذه الصفات لن يدافع عنها إلا القليلون ، ولن يأسى لزوالها إلا الأقلون .
سادسا : والعَرَض الحاسم في زوالها ، وإن أخرناه ، هو أن الشعب الفلسطيني يشتد بأسه في تحرير وطنه من هذه الدولة السارقة له ، وهو ليس وحده في هذا الاشتداد . محور المقاومة العربية الإسلامية كله يشتد بأسا في الوقت الذي تتلوى فيه إسرائيل يأسا . وأهل البأس لهم الانتصار، وأهل اليأس لهم الاندثار الذي هو مآل إسرائيل الحتمي المختلف عما آلت إليه الدول الأربع التي وازن باراك في مقاله في صحيفة " يديعوت أحرونوت " بين ثمانينيتها وثمانينية إسرائيل موازنة فاسدة باطلة .
وسوم: العدد 981