واقع مرير
ومما يُدمي الفؤاد، ويُفتت الكبد، ويُمزق الأحشاء؛ ألماً وحزناً ولوعة، للواقع المرير الأليم الكئيب، الذي يعيشه كثير من الناس، وبالأخص ذراري المسلمين.
فتجد كثيراً منهم يتصفون:
1- بالمسكنة التي تعني كما شرحها معجم المعاني الجامع
o المَسْكَنَةُ: فقر وضعف وحرص على طلب الدّنيا.
o فقر النفس و شُحُّها.
o يَعِيشُ فِي مَسْكَنَةٍ : فِي ذُلٍّ، فِي مَهَانَةٍ وَضُعْفٍ.
البقرة آية 61 وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ.
ونجد في هذه الآية العظيمة الرائعة، التي تصف بني إسرائيل وصفاً دقيقاً، وتبين حالة نفسيتهم الخسيسة، اللئيمة، المنحطة.. وطبيعة سلوكهم المنحرف الشاذ، وتظهر أخلاقهم المشينة المعيبة المهينة، وتكشف سمات الذل والهوان والصغار على وجوههم.
ويقول الطبري في شرحه لها: ( فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافا عليه.).
وآخرون يتصفون:
2- بالاستكانة والتي تعني حسب المعاني الجامع
- استكانَ/ استكانَ لـ يسْتكِين ، اسْتَكِنْ ، استكانةً ، فهو مُسْتكين ، والمفعول مستكان له :-
•استكان الشَّخصُ/ استكان الشَّخصُ لفلان كان؛ خضَع وذلّ وضعُف :-اسْتكانوا قهْرًا للمستعمرين، - {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا{
وفي هذه الآية، مدحٌ وثناءٌ من الله الجليل على الصحابة المؤمنين، في غزوة أحد، الذين صمدوا، وثبتوا، وقاتلوا بشجاعة وبسالة، ولم توهن عزائمهم إشاعةُ مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستذلوا، ولم يستكينوا، ولم تنهار معنوياتهم، ولم تضعف قوتهم، بل وطنوا أنفسهم على القتال، والموت في سبيل الله.
ويعلق الطبري على الآية الآنفة الذكر فيقول: ("فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله"، فما عجزوا = لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله،(١٤) ولا لقتل من قُتل منهم =، عن حرب أعداء الله، ولا نكلوا عن جهادهم ="وما ضعفوا"، يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم ="وما استكانوا"، يعني وما ذلوا فيتخشَّعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم، ولكن مضوا قُدُمًا على بصائرهم ومنهاج نبيِّهم، صبرًا على أمر الله وأمر نبيهم، وطاعة لله واتباعًا لتنزيله ووحيه)
وفريق ثالث:
يتصف بالدروشة والتي تعني حسب المعاني الجامع
- تدروشَيتدروش ، تَدَرْوشًا ، فهو مُتدروِش
- تَدَرْوَشَالرَّجُلُ : صَارَ دَرْوِيشاً وَتَزَيَّا بِلِبَاسِ الدَّرَاوِيشِ
- تَدَرْوَشَ: دروش
- تمسكن وأظهر من نفسه الفقرَ والذلّ
- الدَّرويشُ في نظام الصُّوفية: الزاهد الجوَّال والجمع : دراويش.
وثمة معنى آخر لهذا الفريق، ينطوي على الجذبة.. فالدراويش، تغلب عليهم صفة أنهم مجاذيب، فهم لا يفقهون في الحياة شيئاً، ولا يهتدون سبيلاً، وهم يعيشون على هامش الحياة.
الفريق الرابع:
يتصف بالاستخذاء والذي يعني في معجم المعاني الجامع
- استخذى يستخذي ، استخذاءً ، فهو مستخذٍ :-
استخذى فلانٌ خضع، ذلَّ، انقاد :-استخذى المحتالُ حين اكْتُشف أمرُه،- استخذى لرؤسائه.
والفريق الخامس:
يتصف بالتضعضع الذي يعني في معجم المعاني الجامع
- تضعضعَ/ تضعضعَ بـ يتضعضع ، تَضَعْضُعًا ، فهو مُتضعضِع ، والمفعول مُتضعضَع به :-
تضعضع الشَّخصُ
1 - ضعُف وخفَّ جسمُه من مرضٍ أو حُزن ونحوهما :-تضعضع بعد خسارته، - تضعضعتِ الأرملةُ بعد موت زوجها.
2 - خضع وذلّ وافتقر.
• تضعضع الجيشُ: هُزِم وتشتَّت، تبدَّدت قُواه :-تضعضع العدوُّ، - تضعضع الفريقُ المُنافِس.
• تضعضع الوضعُ: اضطرب، تشوَّش، تردّى :-تضعضع الموقِفُ، - تضعضعتِ القضيَّةُ.
• تضعضع مالُه: قلَّ.
• تضعضع به الدَّهرُ: أذلّه.
الضَّعْضَعةُ: الخُضُوعُ والتذلُّلُ
وقد ضَعْضَعه الأَلم فَتَضَعْضَعَ؛ قال أَبو ذؤيب وتَجَلُّدِي للشامِتِينَ أُرِيهِم أنّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَضَعْضَع.
وفي الحديث: (ما تَضَعْضَعَ امرؤٌ لآخَرَ يريد به عَرَضَ الدنيا إِلاّ ذهَب ثُلثَا دينِه)، يعني خضَع، وذَلَّ.
وفي حديث أَبي بكر، رضي الله عنه، في إِحدى الروايتين: (قد تَضَعْضَعَ بهم الدهرَ فأَصْبَحُوا في ظُلُماتِ القُبُور أَي أَذلّهم).
والضَّعْضاعُ: الضعِيفُ من كل شيء يقال: رجل ضَعْضاعٌ أَي لا رأْيَ له ولا حزم.
وتضعضع أَي افتقر، وكأَنَّ أَصل هذا من ضَعَّ
وضَعْضَعَه أَهدَمه حتى الأَرض
وتَضَعْضَعَت أَركانُه أَي اتَّضَعَت
والعرب تسم الفقير مُتَضَعْضِعاً
وأما الفريق السادس:
فهو الذي يتصف بصفة دنية؛ هابطة، سفلية وهي الخضوع، والخنوع، والانبطاح، والاستسلام للطاغية، وللحاكم المتجبر المتغطرس المتكبر الظالم، الذي لا يحكم إلا بشرع العبيد، وشرع الشيطان، وشرع الهوى، وينبذ شرع الله - الحكم العدل - ولا يُقيم له وزناً.
هذه الأصناف من البشر جميعها، موجودة عند كثير من الناس، الذين بلغ بهم الضعف والخَوَر والصغار والهوان والانحطاط وحالة الغثاء أدنى الدرجات.
وإذا سادت في أي مجتمع مثل هذه الصفات السلبية، الانطوائية، والانعزالية.. فإنها تنذر بشر مستطير، وتجعل المجتمع، خاملاً هامداً وعاجزاً عن انتاج أي فكر راق، أو أي حضارة، أو أي ابداع في العلوم – سواءً كانت إنسانية نظرية أو تجريبية عملية -.
كما أنها تشجع الطغاة، على الاستبداد بهؤلاء الناس المستخذين، والبطش بهم، وقمعهم، والتنكيل بهم، وهم راضون، واستخدامهم كالعبيد أو كالأنعام، لقضاء شهواتهم حاجياتهم ومآربهم.
ويشرح الكواكبي في كتابه المشهور (طبائع الاستبداد) ص46 مآسي هذه الأوصاف، منذ ما يزيد على المائة وعشرين سنة فيقول:
(العوام هم قوة المستبد وقوته بهم ؛ عليهم يصول ويطول ، يأسرهم فيتهللون لشوكته ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون: كريم، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة ، قاتلهم كأنهم بغاة.).
(قد يبدو للنظر القصير، أن مجموعة المحيطين بالمستبِد، ضحايا له، إذ يعانون من استبداده، ويتحملونه على مضض! وهذا صحيح من جانب واحد، أما الجانب الآخر، فهو أنهم شاركوا في صنع هذا المستبِد، بعضهم شارك بالأقوال، والأفعال التي ضخمت ذات المستبِد (كالمدح والثناء، والتبرير لكل صفات المستبِد، وأفعاله، والمشاركة في تنفيذ مشروعات المستبِد) وبعضهم الآخر، شارك بالصمت، والانكماش، مما سمح لصوت المستبِد أن يعلو على من سواه، وسمح لذاته أن تتمدد في الفراغ الذي انسحب منه الآخرون كرهاً أو طوعاً).
وهذه المواصفات النفسية المنحطة، المنغرسة في نفوس من يستمتعون بالذل والهوان بين يدي المستبِد! ويتعاطفون معه، بل ويدافعون عنه، ويفدونه بأرواحهم وأموالهم! أصبح يُطلق عليها في علم النفس الحديث (متلازمة ستوكهلم).
وكلما زاد الناس في استخذائهم، واستسلامهم، وانبطاحهم، وخنوعهم، وخضوعهم للمستبِد - أيا كانت مرتبته أو وظيفته حتى ولو كان مدير مديرية صغيرة، أو مدير مدرسة - كلما زاد شراسة، وطغياناً، وتنمراً عليهم، واستخفافاً بهم، واحتقاراً لهم، وزاد بطشه، واستبداده بهم. كما قال تعالى في وصف فرعون (فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ). الزخرف 54.
استنكار الإسلام الخنوع
ولهذا فإن الإسلام العظيم، يستنكر هذه السلوكيات المتدنية، المهينة! ويرفض رفضاً قاطعاً، الانصياع الأعمى لأوامر أي مسؤول كان، حتى ولو كان الخليفة!
ففي صحيح الجامع عن معاوية بن أبي سفيان (سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ من بَعْدِي، يقولونَ، فلا يُرَدُّ عليهم قولُهُمْ، يَتَقَاحَمُونَ في النارِ كما تَقَاحُمَ القِرَدَةِ).
(عن معاويةَ وصعِدَ المنبرَ يومَ الجمعةِ فقالَ عندَ خطبتِهِ: أيُّها النَّاسُ إنَّ المالَ مالُنا، والفيءَ فيئُنا، من شِئنا أعطينا ومن شِئنا منَعنا، فلم يجبْهُ أحدٌ، فلمَّا كانتِ الجمعةُ الثَّانيةُ قالَ مثلَ ذلِكَ، فلم يجبْهُ أحدٌ، فلمَّا كانتِ الجمعةُ الثالثة قال مثلَ مقالتِهِ، فقام رجلٌ فقالَ: كلَّا إنَّما المالُ مالُنا والفيءُ فيئُنا، من حالَ بينَنا وبينَهُ حَكَّمناهُ إلى اللَّهِ بأسيافِنا. فنزلَ معاويةُ فأرسلَ إلى الرَّجلِ فأدخلَ عليْهِ فقالَ القومُ: هلَكَ، ففتحَ معاويةُ الأبوابَ ودخلَ النَّاسُ فوجدوا الرَّجلَ معَهُ على السَّريرِ فقالَ: إنَّ هذا أحياني أحياهُ اللَّهُ سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يقولُ: ستَكونُ أئمَّةٌ من بعدي. يقولونَ فلا يُردُّ عليْهم قولُهم يتقاحمونَ في النَّارِ تقاحمَ القِردةِ وإنِّي تَكلَّمتُ فلم يردَّ عليَّ أحدٌ فخشيتُ أن أَكونَ منْهم ثمَّ تَكلَّمتُ الثَّانيةَ فلم يردَّ عليَّ أحدٌ فقلتُ في نفسي إنِّي منَ القومِ ثمَّ تَكلَّمتُ الجمعةَ الثَّالثةَ فقامَ هذا فردَّ عليَّ فأحياني أحياهُ اللَّهُ فرجَوتُ أن يُخرِجَنيَ اللَّهُ منْهم فأعطاهُ وأجازَهُ).
المحدث: الذهبي | المصدر: تاريخ الإسلام، خلاصة حكم المحدث: حسن.
- قحَمَ في يَقحُم ، قُحُومًا ، فهو قاحِم وقَحْم ، والمفعول مقحوم فيه • قحَم الرَّجلُ في الأمر رمى بنفسه فيه بلا رويَّة. (المعاني الجامع).
النتيجة الحزينة
وهكذا ما نراه من تسلط الحكام على الشعوب المسلمة، وبغيهم، وطغيانهم، واستبدادهم، ونهب ثرواتهم، وإفقارهم، وظلمهم، ونشر الجهل بين صفوفهم، سببه الوحيد، هو خنوعهم، واستسلامهم، وخضوعهم!
وما فشل الربيع العربي، إلا بسبب الشعوب التي هاجت، وثارت بشكل عاطفي، ضد حكامها المستبدين، وظنت أن المظاهرات ليوم أو أكثر، كافٍ لإسقاط الأنظمة القمعية!
ثم حينما واجهتها بالرصاص، خمدت، وهمدت، وخاب ظنها، وتراجعت القهقرى إلى بيوتها، وانكفأت على نفسها، وخنعت، وخافت من المستبدين، علماً بأن المستبدين أكثر خوفاً من الشعوب المقموعة، ودائماً هم في قلق، وتوجس حتى من حراسهم، فيبيتون سهداً! لا يعرفون لذة النوم الهانئ، ولا طعم الراحة النفسية!
وسوم: العدد 982