أبو عاقلة والمؤسسة الصهيونية: خميرة الهمجية
ستيف هندركس، مدير مكتب «واشنطن بوست» الأمريكية في القدس المحتلة، غطى جريمة اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، فنشر واحداً من أردأ تقاريره حول الشأن الفلسطيني؛ والرداءة هنا لا تشمل الانحياز الفاضح للرواية الإسرائيلية، بل تبدأ من المستوى المهني الهابط في عنونة المادّة والصياغة اللغوية واختيار موقعها على الصفحة، ولا تنتهي عند النسخ الببغائي لرواية سلطات الاحتلال التي لن تصمد سوى ساعات قليلة قبل أن تًسحب من التداول.
ليست أقلّ رداءة حيرة محرّري القسم العربي في قناة «فرانس 24»، الذين تخبطوا طويلاً في استخدام مفردة «وفاة» أبو عاقلة، متغافلين (إذْ يصعب أن يكونوا غافلين!) عن وجود مفردة مثل «مقتل»، بافتراض أنّ الحرج السياسي أمام الإدارة الفرنسية قد منعهم من اللجوء إلى المفردة الوحيدة الصحيحة: اغتيال. وإذا صحّ أنّ هندركس يتوجه إلى قارئ أمريكي متشبّع بالولاء لدولة الاحتلال، وإدارة تحرير لا تُعرف عنها المساواة بين رواية إسرائيلية وأية رواية أخرى، مطلقاً؛ فماذا عن السيدات والسادة صحافيات وصحافيي قناة تتوجه إلى مستمع عربي، وترفع راية «الحرّية والمساواة والأخبار»؟
لا عجب، في ضوء الاعوجاج الذي طبع عشرات التغطيات الصحافية في الولايات المتحدة وأوروبا، وبالمقارنة البسيطة مع الحمّى التي اكتنفت حكاية مقتل الصحافي الأمريكي برنت رينو في أوكرانيا؛ أن تشير الأنباء إلى رفض جيش الاحتلال تكليف الشرطة العسكرية الإسرائيلية بإجراء تحقيق في اغتيال أبو عاقلة، لعدم وجود «اشتباه» جنائي. وهذه محض صفحة أخرى في مجلدات الانحطاط النازيّ الذي يطبع سلوك دولة الاحتلال، وجيشها بصفة خاصة، منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة، وخلال الانتفاضة الأولى وبعدها.
وذات يوم غير بعيد اختارت قيادة جيش الاحتلال تبرئة ضابط إسرائيلي من تهمة ارتكاب «عمل لا أخلاقي»، وذلك رغم أنّ جنوده أنفسهم سردوا فعلته تلك للتلفزة الإسرائيلية، على النحو التالي: سقطت الطفلة الفلسطينية إيمان الهمص (13 سنة) أرضاً بعد أن تعرّضت لإطلاق نار من نقطة مراقبة عسكرية إسرائيلية. لكنها كانت قد جُرحت فقط، حين تقدّم منها الضابط الإسرائيلي، قائد الفصيل، وأطلق طلقتين على رأسها من مدى قريب؛ ثمّ عاد من جديد إلى الطفلة، وغيّر سلاحه إلى التلقيم الآلي، وتجاهل اعتراضات زملائه التي تواصلت عبر جهاز الاتصال، وأفرغ كامل الذخيرة في جسدها. جريمة ذلك الضابط/ الوحش/ النازيّ/ القاتل بدم بارد كانت متخمة بكلّ صنوف «الاشتباه» الجنائي، ومع ذاك فقد وجدته قيادة جيش الاحتلال بريئاً من أيّ اتهام لا أخلاقي!
وفي كتابه الشهير «رصاص مطاطي: القوّة والضمير في إسرائيل الحديثة»، أحصى الكاتب الإسرائيلي يارون إزراحي الأثمان الباهظة لذلك الانتقال الذي تنخرط فيه دولة الاحتلال: من المعجزة بحدّ السيف، حسب أنبياء التبشير الصهيوني، إلى ما بعد الملحمة بالرصاص المطاطي (الذي لم يعد لائقاً باسمه أصلاً، لأنه رصاص حيّ «مطعّم» ليس أكثر). وإزراحي اعتبر أن استخدام هذا الرصاص لقمع الانتفاضة كان نقلة نوعية في السردية الصهيونية الكلاسيكية، الأسطورية والملحمية والتربوية؛ فما الذي كان سيبصره من أثمان إضافية خلف الانحطاط الصهيوني نحو الهمجية النازية في اغتيال أبو عاقلة، والامتناع عن التحقيق أصلاً، وتجنّب عناء التبرئة؟
ومنذ أواخر عشرينيات القرن الماضي كان أبا أخيمئير، أحد كبار قادة الحزب «التنقيحي» الذي أسّسه زئيف جابوتنسكي، قد أعلن أنّ المنظمة الصهيونية جثة هامدة ينبغي أن تُدفن سريعاً قبل أن تزكم رائحتها أنوف «الصهاينة الأطهار» أمثال مناحيم بيغين وإسحق شامير؛ أبطال العمليات الإرهابية، وقادة أحزاب إسرائيل ورؤساء حكوماتها في العقود التالية. وإذْ يترنح ائتلاف نفتالي بينيت اليوم، فليس لأنّ صهيونية الاحتلال بعد 74 سنة تزكم الانوف بشتى روائح الدم والهمجية فقط، بل كذلك لأنّ أشباح أمثال أخيمئير تتقدم حثيثاً؛ حتى عبر خميرة خبز السبت!
وسوم: العدد 982