سوريا التي وقعت وتتكاثر سكاكينه
هذا مثل» قومي عربي» ضارب في أرض العروبة من أدناها إلى أقصاها، مع أنه يتلوّن قليلاً بين بلدٍ وآخر وبيئة وأخرى. هو في البوادي المشرقية» الجمل إذا طاح» أو» اليَمَل» أحياناً؛ والبقرة في الحواضر والأرياف، وقد تغدو ثوراً أيضاً. كلّها تتحدّث عن» عزيز قومٍ ذَلّ»، وعن نذالة فطرية تحثّ القوم على شحذ سكاكينهم حين يقع ويتعثّر أحدهم، لينهشوا في لحمه.
سوريا لم تكن» عزيزَ قومٍ» في عام 2011، بل كانت تتعثّر باستمرار منذ حكمها حزب البعث عام 1963، واستبدّ بها آل الأسد منذ 1970. وبمستوى ذلك التعثّر السابق، كانت الناس تنهش في لحم البلاد ودهنها. لكنّ مستوى ذلك النهش وحجم وصوت السكاكين وهي تُشحذ وتُجهز عليها ازداد بشكل لوغاريتمي منذ عام 2011، عام الثورة السورية، حين استفحل الأمر وأصبح استمراره مستحيلاً، مهما كانت العواقب.
بالطبع لا يُمكن إعذار أهل السكاكين، مهما رأى البعض أنهم معذورون في كون من سبقهم برمي الجمل أرضاً وتعثيره هو المؤتمن عليه رسمياً. حسب الشرائع الدولية أو القانون الدولي: هو من يمسك بالبقرة ويحلبها، ثمّ يقوم بكلّ ما من شأنه إيقاعها أرضاً، منفتحة على سكاكين الأرض. يصف صندوق السلام الدولة الفاشلة بأنها الدولة التي تصل إلى الخصائص التالية: فقدان السيطرة على أراضيها، أو احتكارها الاستخدام المشروع للعنف، إضافةَ إلى تآكل القدرة الشرعية في اتخاذ القرارات العامة، كذلك العجز عن تقديم الخدمات العامة، ويعتمد تصنيف الدول الفاشلة أو الهشة على درجة» التماسك» التي يُعبّر عنها بحالة الأمن والنخب المختلفة وحجم تذمّر الجماعات البشرية؛ وعلى الحالة الاقتصادية من تدهور وتطور غير متكافئ ونزوح بشري أو نزيف الكفاءات؛ وعلى الحالة السياسية من حيث درجة شرعية الحكم والخدمات العامة وأوضاع حقوق الإنسان وسيادة القانون؛ وعلى الحالة الاجتماعية من حيث الضغوط الديموغرافية وحجم لجوء ونزوح السكان، وأخيراً مقدار الدور والتدخّل الخارجي في الدولة المعنيّة.
في مؤشّر 2021 لهشاشة دول العالم، حلّت سوريا في المركز الثالث اعتباراً من آخر قائمة من 179 دولة. كان قبلها اليمن والصومال، وبعدها جنوب السودان فالكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وتشاد.
ربّما يبرّر هذا أو يفسّر ما فعلته قوى عديدة حين نفضت يدها من هذه البلاد، لكنه لا يكفي لمنع تأثيرات الحالة السورية في الأمن الإقليمي والدولي، مع كلّ الإعراض الذي نراه عن سلوك درب المتطلبّات المتوازنة والاستراتيجية، من أطراف ترتبط مباشرة بالحالة تلك وما وصلت إليه. بعض تلك القوى ينطلق غالباً من اعتبارات انتخابية محضة، وبعضها من أخرى «جيوستراتيجية» ترى في سوريا والشرق الأوسط كله ورقة فات زمانها، وانزاحت أهميتها إلى أماكن أخرى من «المعمورة». آخرون ربّما من الاعتبارين معاً، أو من مسائل عابرة. كلّ الخبرة الدوليّة تركّز على مقولة مشتركة، إنّ السياسة الخارجية في ذيل اهتمام الناخبين، وأمور المعيشة والاقتصاد في مقدمّته، وبين الحدّين هناك الأمان وراحة البال. ولكنّ هذا ليس مطلقاً، فقد حدثت شروط مختلفة في التاريخ المعاصر، أيامَ حرب فيتنام ثمّ حرب العراق، على سبيل المثال. يتعلّق الأمر بدرجة التفاعل الاجتماعي مع الحدث عينه، لكنّ تلك النظرة تتحرّك مؤخّراً، ليس لاهتمام مباشر بالسياسة الخارجية، بل لتأثير ذلك في السياسات الداخلية. لمسائل الهجرة وموجات اللاجئين أثر في ذلك التحوّل، وللوباء- أو الأوبئة- وقضايا البيئة التي أخذت تزداد فعلاً وأثراً.
حرب روسيا على أوكرانيا، في قلب أوروبا، تؤثّر مباشرة في التوقّعات والسياسات الانتخابية، من خلال عامل الاستقرار والأمن والخوف، وكذلك من الانعكاسات الدرامية وغير المحسوبة بدقة على استراتيجيا الطاقة، وعلى الاقتصاد عموماً. بالطبع أيضاً على حركة اللجوء المليونية الجديدة والطارئة، التي كانت رادارات الغرب تراقبها من الشرق فجاءت من» الغرب»، إلى الغرب.
بغضّ النظر مؤقّتاً عن انعكاسات الحرب في أوروبا على هشاشة سوريا وآفاقها، هنالك انعكاسات – كما يبدو- للانتخابات القريبة جغرافياً، وعليها أيضاً؛ ومن ذلك الانتخابات اللبنانية مؤخّراً، لكنّ الانتخابات التركية في العام المقبل تبدو منذ الآن ذات مفاعيل جذرية إلى هذا الحدّ أو ذاك، لا نستطيع إهمال دور العامل الانتخابي ذاك، في التصعيد التركي الجديد المهدّد باجتياح أجزاء جديدة من «المنطقة الآمنة» على الحدود بعمق 30 كيلومترا، ما يقارب ثلاثة أضعاف مساحة لبنان. بلغة مختلفة، يجري الحديث عن إبعاد قوات سوريا الديمقراطية تلك المسافة، وإسكان أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في ذلك الشريط، في تكرارٍ حديث للحركات الديموغرافية في تركيا وحولها، منذ قرن مضى، وقتذاك في أجواء الخروج من «سفر برلك» ونتائجها السلبية، والدخول في الحرب الوطنية بقيادة أتاتورك، التي أوقفت تمدّد مفاعيل التفتيت نحو ما أصبح تركيا المعاصرة.
في العقود الأخيرة، استحوذت المسألة الكردية على الكرد الأتراك والأتراك، وهاجرت قيادات «حزب العمال الكردستاني» مع نواة قواته الصلبة إلى جبال قنديل شمال شرق العراق، وأصبحت مواجهته هناك أصعب لأسباب متنوعة. ولكن، بغضّ النظر عن مجريات الأمور في العراق، تتقدّم المسألة السورية اهتمامات السياسة الخارجية والأمنية منذ فترة، من خلال مسألتي اللاجئين والكرد معاً، عن طريق التدخّل العسكري من جديد في أجواء انشغال العالم بما يجري في أوكرانيا، لإقامة المنطقة الآمنة المفترضة التي تتعامل مع المسألتين بضربة واحدة. أفزع ذلك كلّ السوريين، خصوصاً كردهم ونازحيهم في شمال سوريا، الشرقي والغربي. لا يريد المهجّرون من قبل النظام من مناطق شتّى في البلاد، كان تجمعها تسمية» مناطق خفض التصعيد»، وهم أكثر من مليوني نازح، أن يتمّ «توطينهم» في مُجمّعات سكنية قبيحة تقيمها الحكومة التركية. يعني لهم ذلك مباشرة انتهاءَ حلمهم بالعودة إلى مساكنهم الأصلية، بل يرون في ذلك ما يشبه النكبة، وابتدأوا حراكاً شعبياً مستنكراً ومضاداً لها. كما- بالطبع- لا يريدها الكرد، الذين تعني لهم إحياءً وتجديداً وتوسيعاً لفكرة «الحزام العربي» التي استنّها حزب البعث منذ عقود لإبعاد الكرد عن الحدود وفرط تجمعاتهم. وهي، بتصميمها المعمّم والمعلن تكاد تنهي، لو تمّ تنفيذها مستقبلهم الذي يريدونه أكثر ضماناتٍ وأقلّ هواجسَ.
إضافة إلى وعد الناخبين الأتراك بحلّ جزء رئيس من مشكلة اللاجئين التي ظهر القلق بسببها، خاصة بعد تزايد استخدامها من قبل المعارضة هناك.. فإن الحكومة التركية تعلن استهداف حزب العمال الكردستاني- المصنّف إرهابياً- في شمال شرق سوريا وفي منبج وتل رفعت. توجد على الأرض في تلك المناطق قوات سوريا الديمقراطية، التي ترى فيها تركيا جسماً مقنّعاً يخفي وراءه حزب العمال وقواه الإرهابية. كذلك يوجد التحالف الدولي ضد الإرهاب، الذي هزم إلى حد كبير قوى «داعش» – بالتعاون مع قسد- ولم يُجهز عليها؛ وقوات روسية. لم تلغِ قسد وجود النظام السوري إدارياً هناك، وإلى حدٍّ أقلّ أمنياً، وأقلّ منه عسكرياً. وهي بذلك تحاشت حروب احتلال المدن جزئياً ومنعت انهيار مؤسسات الدولة وخدماتها الرسمية، ليس بشكل ناجز وكامل.
يشكّل حزب الاتّحاد الديمقراطي النواة الصلبة سياسياً وعسكرياً لمسد وقسد، وهو بالفعل حزب نشأ على أفكار وأيديولوجيا عبدالله أوجلان مع تحديثاته وتكييفاته الخاصة، لكنّه يبتعد بالتدريج عن الصلة المباشرة بكلّ الأشكال عن حزب العمال المذكور، وما زال أمامه طريق محتّم في ذلك الاتّجاه. تؤكّد بعض الدراسات الواقعية ذلك – ما صدر عن مركز جسور في إسطنبول مثلاً- لكنّ الجماعات الأقرب إلى الصلة العضوية بجبال قنديل على الأرض تجهد للتشويش على كلّ ما يبعد مسد عن النظام السوري، وعن كلّ ما يشغلها عن بقاء أعينها وأسلحتها على حذر ومواجهة مع الأتراك، وكذلك لتعطيل أيّ محاولة للحوار الكردي- الكردي، كما حدث مؤخراً بإحراق مجموعات شبه عسكرية لمقرات المجلس الوطني الكردي. ذلك يعني توافق سياسات قنديل وأنقرة بشكل غير مباشر، وخدمة كلّ طرف لاستراتيجية الطرف الآخر، رغم العداء العضوي العميق بالأساس.
هنالك أجواء تنذر بالمزيد من التفتّت والبعد عن حلّ القضية السورية سياسياً حسب قرار مجلس الأمن رقم 2254. وهناك معارك انتخابية – بأسلحتها المستخدمة- تهدّد وجود سوريا ذاته. يلتقي ذلك مع النشاط الإيراني المحموم لملء الفراغ الروسي والتمدّد في كلّ الاتّجاهات… وهو يلتقي أيضاً – كذا- مع ما يريده ويعمل له نظام الأسد الذي أصبح مجمّعاً للعصابات لا يرتقي حتى إلى مستوى الجريمة المنظمة؟
.هي البقرة التي لم تكن» لا شِيةَ فيها»، حين عمل نظام الأسد على تأمين عثارها، فاجتمعت عليها الآن السكاكين!
وسوم: العدد 984