إسرائيل بين تاريخين .. من بداية الصعود إلى بداية الأفول
والتاريخان هما 1967 الذي انتصرت فيه إسرائيل على مصر وسوريا و الأردن انتصارا خاطفا يشبه نشل لص محترف محفظةَ شخص ما ، و2022 الذي يتسابق فيه ساستها وعسكريوها واستخباريوها وإعلاميوها إلى الجهر باليأس من بقائها ، ويقر بعضهم أنها مشروع فاشل من أصله ، ويشاركهم 69 % من مستوطنيها يأسهم وإقرارهم بالفشل، وبات هاجس اختيار مهجر جديد يشغل بالهم شغلا موصولا . فجَر انتصارها في حرب 5 يونيو 1967 نشوة كبرى لقادتها ومستوطنيها ، وبالموازاة فجر صدمة أذهلت العرب القوميين الوحدويين الذين كانوا يرون إزالة إسرائيل هدفهم الوطني والقومي الأول . ولم يستوعب الحس الشعبي العربي واقعية الانتصار الإسرائيلي الكبير والهزيمة العربية الكبرى . كيف تهزم إسرائيل مصر عبد الناصر صاحبة أكبر جيش عربي ورافعة راية القومية العربية والعزة العربية ؟! عدد مستوطني إسرائيل حينئذ كان مليونين ونصف المليون ، ويعادله الآن ، بل يزيد عليه عدد سكان غزة إلا أن انتصارها كان محتوما ، وهزيمة العرب القوميين الوحدويين كانت محتومة ، ويقرر هذه الحتمية العامل العسكري وحده حتى إن صرفنا النظر عن دور العوامل السياسية والاستراتيجية الإقليمية والدولية . حشدت إسرائيل للحرب 400 ألف جندي ، وكانت ذات قيادة عسكرية واحدة وخطة عمليات وأهداف محددة تفصيلا . وحشدت مصر 70 أو80 ألف جندي بعثرتهم القيادة العسكرية على مسافة 170 كم مع فلسطين المحتلة في صحراء لا يكادون يعرفون عنها شيئا ، ولم يستطيعوا في أسابيع الحشد الثلاثة التي سبقت الحرب إقامة أي مواقع دفاعية ، وكان سهلا على القوات الإسرائيلية البرية اختراق خط المواقع المصرية الضعيفة المتباعدة . وافتتحت إسرائيل الحرب بغارات متلاحقة على المطارات المصرية دمرت فيها معظم سلاح الجو المصري ، فانهارت القيادة المصرية ساسة وعسكرا ، ولحق الانهيار السريع القوات المصرية في سيناء ، وسارعت مصر بالموافقة على قرار مجلس الأمن بوقف الحرب يوم الأربعاء 7 يونيو ، أي بعد يومين من بدئها ، ووافقت إسرائيل عليه في سيناء ، ونقلت قسما من قواتها فيها إلى الجبهة السورية والأردنية ، وانتصرت سريعا هناك . كانت تعلم أنها ستنتصر في الحرب لعلمها بما عندها من قوة وما عند أعدائها من سوس الضعف والارتجال وسوء التنظيم والتخطيط ، ومع الزمن تبين أن إسرائيل بالغت في تعظيم انتصارها ، وبدأت تواجه سلبياته التي هي مزايا لأعدائها من العرب ، وأقول " من العرب " توضيحا لحقيقة أن بعض العرب فرح لانتصارها ، بل موَل حربها تلك . ومن سلبيات ذلك الانتصار التي هي مزايا لبعض العرب :
أولا : صارت ، إسرائيل ، وجها لوجه مع الشعب الفلسطيني باحتلالها للضفة وغزة ، أي لكامل التراب الفلسطيني ، وبدأت مقاومة احتلالها في هاتين المنطقتين ، وكانت غزة هي البادئة حين شرع مَن بقي فيها من جنود جيش التحرير في مهاجمة القوات الإسرائيلية بالرصاص ليلا ، وبتلغيم طرق مرور عرباتها خاصة خط الهدنة ، ووضع المتفجرات قرب مقراتها . وكان إطلاق عدة رصاصات ليلا من بيارة برتقال موازية لشارع صلاح الدين الذي يتوسط قطاع غزة من شماله إلى جنوبه كافيا لرجوع أي عربة إسرائيلية من حيث قدمت . وأدت كثرة المنظمات الفلسطينية المقاومة وائتلافها في منظمة التحرير إلى ظهور كيانية فلسطينية سياسية مناضلة يرى العالم من خلالها الشعب الفلسطيني ويتعرف على خلفيات قضيته العادلة وحقائقها ، وعاظم من قوة تلك الكيانية أنها ظهرت في زمن الزخم الكبير لقوى التحرر والثورة في العالم التي كانت تتبادل التآزر والتناصر فيما بينها ، وكان الاتحاد السوفيتي والصين معززين لتلك القوى ضمن آلية نزاعهما مع الغرب الاستعماري الرأسمالي المؤازر لإسرائيل . وبدأ بعض فلسطينيي غزة والضفة يعملون في إسرائيل ، ومن السهل أن يقرر البعيد عن الواقع فيهما أن يصنف ذلك العمل تصنيفا سيئا مضرا بالشعب الفلسطيني وقضيته إلا أن فوائده كانت أكثر من ضرره لهؤلاء العمال وللقضية الفلسطينية . وفر لهم مالا أنفقوه على أسرهم ، واشتروا به أرضا بنوا فيها بيوتا ومحلات تجارية وصناعية ، ومنعهم من مغادرة الضفة وغزة بحثا عن الرزق في الخارج ، وربما الاستقرار فيه . واتصلوا بأقارب لهم في الداخل المحتل ، وحدث تزاوج بين الطرفين أدى لاستقرار بعضهم فيه ، الداخل ، وشاهدوا المدن والقرى والمزارع التي كانت لأسرهم فشعروا بقوة انتمائهم إليها ، وأنهم لابد أن يستردوها يوما . وتحرروا من صدمة الانتصار الإسرائيلي الذي سعت الدعاية الإسرائيلية بعده لتقديم صورة سوبرمان للإسرائيلي القوي في كل شيء ، ولا سبيل لغلبته . اكتشفوا مدى ما في الصورة من تكبير وتضليل ، وأن السوبرمان لا وجود له ، وأن الإسرائيلي جبان يصفر وجهه وترتعش جوارحه عند بدء أي مشاجرة مع الفلسطيني . انكسر حاجز الخوف منه الذي أنجمه الانتصار السريع في تلك الحرب . وفعل هذا الانكسار فعله في الانتفاضة الأولى حين أظهر الصبيان والشبان الفلسطينيون جرأة سينمائية في الاشتباك مع القوات الإسرائيلية بالحجارة التي كانوا يقذفونها بها مباشرة بأيديهم أو بمقاليعهم من بعيد . وضاق رابين وزير الدفاع الإسرائيلي صدرا بغزة المقاتلة بالحجارة ، فتمنى الصحو من نومه صباح يوم ليجدها مغرقة في البحر ، وأقسم على أن يخرجها من إسرائيل بمنع عمالها من العمل هناك ، وكان المنطقي أن يقسم على إخراج إسرائيل منها إلا أنه لم يكن يجرؤ على ذلك القسم الذي سيرى فيه ساسة وعسكريون وأمنيون إسرائيليون يومئذ ضعفا وضررا بدولتهم .
ثانيا : ملاحقة إسرائيل للمنظمات الفلسطينية في لبنان دفعتها للتورط فيه واحتلال جنوبه في السبعينات ، وقاد هذا الاحتلال إلى ظهور المقاومة الإسلامية اللبنانية التي تتوجت بظهور حزب الله محاربا صلبا في مجابهة إسرائيل ، فقهرها على الانسحاب منه في مايو 2000 ، وقاتلها بندية في حرب 2006 ، وحسبت نديته بالمعايير العسكرية انتصارا له وهزيمة لها اعترف بها قادتها سياسيين وعسكريين .
ثالثا : تحرشها بغزة وحصارها له قادها إلى أربع حروب معها ، وساء أداؤها العسكري فيها تصاعديا ، وتحسن أداء المقاومة العسكري فيها تصاعديا ، وعُدت حرب الأيام الأحد عشر في مايو 2021 انتصارا لتلك المقاومة وانخذالا لإسرائيل ، وصار مصطلح " تآكل الردع الإسرائيلي " مألوفا متداولا في الدوائر السياسية والعسكرية وسواها من دوائر التأثير هناك .
وكل هذه الإنجازات حدثت بمعزل عن الرسميات العربية السياسية والعسكرية ، بل ضد إرادتها الممالئة لإسرائيل . ولا يكتمل صواب الرأي دون الالتفات إلى قيمة الدور الإيراني في هذه المنجزات بتمويله وتسليحه وتدريبه لقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية ، وبتصديه لامتداد أذرع إسرائيل المتنوعة في المنطقة ، وبمؤازرته لجماعة أنصار الله في مجابهة عدوان النظام السعودي وحلفائه وهزيمته في النهاية . بين التاريخ الأول والتاريخ الثاني 55 عاما . كان الأول بداية صعود لإسرائيل تواصل ضعفه وتآكله حتى انتهى بها اليوم إلى بداية الأفول الذي يتسابق ساستها وعسكريوها واستخباريوها وإعلاميوها إلى الجهر به والصراخ رعبا منه أكثر مما يجهر به أعداؤها وإن فرحوا به وتمنوا سرعة وقوعه ، وانضم بينيت رئيس وزرائها منذ أيام إلى الجاهرين بقرب الأفول ، فقال إنها على وشك الانهيار ، ولم يصده خوفه من استثمار عدوه اللدود نتنياهو لهذه المجاهرة ، واتخاذها برهانا على صحة اتهامه له بفقدان الصلاحية والأهلية لقيادة إسرائيل ، ومدلول عدم خوفه أن قلقه من قرب الأفول أكبر من أن يكتمه . ومن بين الجاهرين الإسرائيليين بقرب الأفول من هو مسرور منه ، ويراه إنقاذا لهم من مآلات سيئة حتمية الحدوث ، وأن هذه الدولة اختِلقت خطأ ، وظلم اختلاقها الشعب الفلسطيني . ومن هؤلاء المؤرخ شلوم ساند ، والمؤرخ عوفر ألوني ، والكاتب بريزون ، والحاخام يشعياهو لايفو فيتش الذي قال في اجتماع بعدد من شبان الصهيونية المتدينة إن اليهود في فلسطين ساروا بعد حرب 1967 في طريق العنصرية والعدوانية المتطرفتين الذي سار فيه الشعب الألماني ، فانتهى أسوأ نهاية ، وهي النهاية التي لا نجاة منها لليهود في فلسطين ، ووصف الهيكل الذي يريدون إعادة بنائه على أنقاض الأقصى بمغارة لصوص . بعد انتصار إسرائيل السريع الكبير في 1967 كتب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي : " هذه بداية النهاية لإسرائيل " ، وسارت البداية في طريقها 55 عاما ، وتقترب اليوم من صيرورتها نهاية لدولة اختلقها الخطأ والكذب والظلم والنوايا الشريرة ، وعاشت 74 عاما على الدم والعنف والتخريب والعدوان والمؤامرات .
وسوم: العدد 984