انهيار في منظوماتنا التربوية
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله
إنَّ من أهمِّ أسباب تخلّف الدّول العربية عموما والجزائر خصوصا هو الانهيار التّام في ميدان المنظومة التّربوية ومؤسساتها التّعليمية والتّنظيرية ، وحتّى محاولات الإصلاح التي رُصد لها المال الكثير ولدت ميّتة لأنها غير جادّة وغير واعية .
ففي محاولة الإصلاح الأخيرة التي اثيرت في الجزائر كنّا ننتظر من المشرفين عليها أن يهتمّوا بجوهر المشكلة في التّربية والتّعليم بتقييم الأداء التّربوي للمدرسة ودراسة مسارها منذ الاستقلال ، وتشخيص الأسباب التّي أدّت إلى السّلبية والاعتلال ، فتدنّي المستوى المعرفي والتّربوي ظاهرٌ في الجيل الذي تخرَّج منها ، فلا إبداع في العلوم والآداب ، ولا غيرة على الوطن ، ولا تمسّك بالفضائل والقيم ، انتشرت فيه المفاسد كالنّار في الهشيم : الطيش ، الاختلاس ، الرّشوة ،الرّذيلة ، المخدّرات ، الانتحار ، الهوان وفقدان العزة ، حتّى صار الشباب يضحّي بحياته في مغامرات غير مأمونة من أجل الالتحاق بعدوّ اليوم والأمس والغد طمعا في فتاته .
مظاهرُ انحراف الإصلاح
لكن الظّاهر أنَّ الخلل في التَّصور يؤدّي حتما إلى الخلل في التّصرف ،فبدل أن يحدث هذا النّقد البنّاء ، وتوصف الأدوية النّاجعة لتلك الأدواء ، وجِّه الإصلاح إلى الشكليات والمظهر ، وصرف عن الحقيقة والجوهر ، وهاهو يجعل العملية التربوية معادلة عددية المتعلم فيها رقمٌ مجرَّدٌ ، يُجمع ويُطرح ويُضرب ويُقسم ، وتُحسب به النِّسب وترسم له البيانات لتكون دليلا على تحسُّن المستوى ونجاح الإصلاحات ، فتحوّلت تلك الأرقام والنّسب إلى أهداف وغايات ، وإذا بالنّتائج تُنفخ وتضخَّم ، والمستوى يتدنَّى ويتحطَّم .
فهل تضخيم نسب النجاح يعطي المصداقية للسياسة المنتهجة في الإصلاح ؟
وهل إخفاء مظاهر العلَّة بمساحيق التَّجميل الرّقمية يغني شيئا في إزالة آثارها وإبعاد إخطارها ؟
ماذا يجدي إرهاق الأسرة التربوية بإجراء الإحصاءات وحساب النّسب ووضع البيانات للنّقاط والمعدلات ؟
فهل يكفي المعدل اليوم للتّدليل على مستوى التّحصيل والغش مستشرٍ في كلّ المستويات ؟
ألا فليعلم المشرفون على وزارة التربية أنَّنا نريد لأولادنا تعليما ناجعا مفيدا ، لا نجاحا موهوما وشهادة مغشوشة مزعومة ، إننا نريدهم أن يتخرّجوا من المدرسة مزوّدين بما يصونهم من التّردي في معترك الحياة سواء أكملوا أم فُصلوا ، لا نريدهم أن يكونوا غطاء لسياسة إصلاحية ارتجالية فاشلة .
تمنينا لو أنّ هذه الوزارة التي أصابها هوس الأرقام والنّسب وظّفت مهاراتها التَّقييمية وقدراتها الحسابية فيما يشخّص فداحة الأزمة التربوية في البلاد فتحدّد لنا مثلا : نسبة الذين خذلوا وطنهم واستقروا في الخارج من خرّيجي الجامعات ذوي الخبرة المهنية والشهادات
نسبة المتورطين في جرائم الفساد والاختلاس من المسئولين وإطارات الدولة المتخرّجين من معاهد الاستقلال
نسبة الطّالبات في الجامعات والثانويات وحتّى المتوسطات اللّواتي فقدن الشّرف أو تحوّلن إلى أمّهات عازبات
نسبة الذين يؤمنون بشيئ يسمى الغيرة على الوطن او حتى على العرض في شبان اليوم
نسبة الذين فشت فيهم النّعرة العرقية المُضرّة بالوحدة الوطنية
نسبة الذين ينالون شهاداتهم الجامعية بالاجتهاد والبحث لا بالغش أو الرّشاوى أو الوساطات أو أشياء أخرى مسكوت عنها
نسبة الذين يحسنون كتابة طلب أو شكوى بلغة من اللغات في الثانويات أو حتى في الجامعات
انّه على ضوء هذه النسب يُقيَّم الأداء التربوي للمدرسة والجامعة ، ويُشخَّص الدَّاء ، ويقرَّر العلاج المناسب ، فلا تغني المعالجة بترقيعات مستوردة ، وارتجالات مستفردة ، وأرقام ونسب مفتعلة محددة .
الهياكل والوسائل لا تكفي وحدها
ومن الأرقام التي يتباهى بها المسئولون أيضا كدليل على نجاح السياسة التعليمية عدد المنشآت والمؤسسات من مدارس وثانويات ومعاهد وجامعات وما هيئ لها من وسائل وامكانيات ، هذا جانب ايجابي في السياسة التعليمية لا ينكره إلا جاحد أو معاند ، فالدولة الجزائرية منذ الاستقلال اهتمت ببناء المؤسسات التعليمية ويسرت الالتحاق بها على أبناء الشعب ، وفي السنوات الأخيرة زاد ذلك الاهتمام زيادة ملحوظة ،إذ تضاعفت المنشآت والهياكل المجهزة بأحدث الوسائل , وهي نقطة مشرِّفة تُحسب للدولة لكن : هل ذلك يكفي لتحقيق النَّجاعة في التعليم ؟ وتتمثل النّجاعة في: (تكوين الإنسان السوي صاحب الفكر المنير، والإرادة الحرّة ،والهدف الواضح ،والسلوك الايجابي ، والشخصية القوية المتوازنة ، والرّوح الطّيبة الطّاهرة الذي يصلح لتحمل المسؤولية في البناء الوطني والحضاري)
والجواب كلا .. قد ييسر له ذلك تحصيل المعلومات ، لكن ليس كل المعلومات مفيدة في بناء شخصية المتعلم ، مثلا ليس كل من تعلَّم تقنيات الإعلام الآلي يفيد ويستفيد ، فقد يضر ويتضرّر إذا لم يأخذ مع تلك التقنيات الوازع الأخلاقي الذي يضمن استعمالها في المجالات الايجابية لا السلبية .
وقد تنعدم الوسائل العصرية ولا يحول ذلك دون بناء شخصية المتعلم بناء إيجابيا بمعلومات ومعارف قليلة محدودة ، لكنها هادفة مفيدة ، ولنا مثال حي على ذلك من تاريخنا القريب ، فجمعية العلماء المسلمين اعتمدت أسلوب " القليل المفيد " في تعليمها للجيل ، ونجحت في بلوغ هدفها رغم قسوة الظروف ، وقلة الوسائل ، ومضايقات الاستدمار ، حيث بعثت الوعي الإسلامي الوطني الذي كلل بالاستقلال .
إنّ ذلك الشاب الذي تعلّم في الكُتَّاب مفترشا حصيرا باليا أو حتى التّراب ، كان أحسن فهما ، واقوي شخصية ، وأكثر وعيا ، واصدق وطنية من اغلب شباب اليوم الذي وفّر له الاستقلال مرافق الرّاحة والدّلال ، ولم يعلمه فنون السموّ والكمال ، فماع حتى ضاع ، لماذا عجزت مدرسة الاستقلال أن تنجب عالِما ربّانيا كابن باديس ، أو مفكّرا أريبا كمالك بن نبي ، أو شاعرا مبدعا مجاهدا بشعره كمفدي زكريا ؟
نجاح السّياسة التّربوية لا يقاس بالأرقام لكن بالنّوعية
متى يدرك المسئولون على التربية أنّ المشكلة الأساسية في التعليم ليست في الأرقام والنسب والهياكل والوسائل ، إنّها في مواصفات المشروع التربوي ، في توجّهات العملية التعليمية ، في ماهية الأهداف من التّعلُّم ، والنّجاح في السياسة التعليمية لا يقاس بالكم لكن بالكيف ، لا يثبته العدد لكن نوعية المعدود ، ليس نسبا توردها التقارير ، أو بيانات ترسمها الحواسيب ، انه سلوكات يجسدها الميدان ، لان الإنسان ليس كالحيوانات الأخرى يكفي معها أن تُعوَّدَ وتدرَّب ، انه كائن معقد ، يملك نفسا يجب أن تُهذَّب ، وأفكارا يجب أن تُصوَّب ، وما لم يدرك المسئولون ذلك ستبقى الأموال تُهْدَر ، والمواهب تُقبر ، والأجيال تتقهقر وتُدحر .
ماذا نقصد بالكيف ؟ هل قيمة المعلومات ومصداقيتها ؟ هل ثراء البرامج وأهميتها ؟ هذه لا شك جوانب هامّة يجب مراعاتها ، فبرامجنا التعليمية مازالت تقدّم لأبنائنا نظريات تجاوزها الزّمن وأبطلها العلم ، كنظرية النشوء والارتقاء لدروين التي تخلّت عنها المدارس في أمريكا منذ الثلا ثينيات ، ولا يخفى ما في هذه النظرية من خطر على عقيدة الأجيال وأخلاقها ، وكذلك نظريات فرويد ودوركايم وماركس وغيرهم من اليهود المضلين .
ومازالت تقدِّم هيئة الأمم المتحدة على أنها راعية العدالة والسلام في العالم ، وحامية لحقوق الشعوب المستضعفة ، والواقع يشهد أنها مجرد غطاء للدول القوية خاصة أمريكا في سياستها الاستدمارية ، وأداة من أدوات الهيمنة الصهيونية في العالم .ومازالت تفرض على المتعلم جغرافية الصين والبرازيل ، وهو يجهل جغرافية العالم الإسلامي القريب منه ، وقس على ذلك .. الكثير من المعارف التي يُحشى بها ذهنُ المتعلم ولا طائل من ورائها في بناء شخصيته ، بل لها مفعول عكسي حيث تُدمِّر وتُفسد وتُضلِّلْ .
ان الاصلاح الناجع الناجح في الامة الاسلامية يجب ان يعتمد على عقيدة وقيم الاسلام لانه منظومة اخلاقية وعلمية وفكرية كاملة وفعالة في تكوين الفرد الصالح الايجابي والمجتمع الناجح السعيد.
وكل اصلاح يعتمد على الغرب والتغريبيين فهو فاشل مسبقا بل هو افساد وتدمير للمنظومة التربوية وللفرد وللمجتمع وذلك في كل دولنا العربية والاسلامية.
وسوم: العدد 986