بين حين وآخر ، يطلع علينا الإعلام الإسرائيلي بنبأ مجزرة اقترفها جيش دولته ومستوطنوها في فلسطين ، أو ضد الجيوش العربية خاصة الجيش المصري . وأمس ، تحدث آدم راز في " هآرتس " عن مقبرة جماعية ل 80 جنديا مصريا في مستوطنة نحشون ( تعني حية بالعبرية ) في وسط فلسطين ، في وادي أيالون ، وأوضح أن أكثرهم قتلوا حرقا حين أطلقت القوات الإسرائيلية القنابل الفوسفورية على المنطقة ذات الاشجار والأعشاب الجافة التي تواجدوا فيها في أول أيام حرب يونيو 1967 . وكان هؤلاء الجنود ينوون مهاجمة المستوطنة . ويصفهم المقدم زئيف بلوخ المسئول العسكري عنها بأن " وحدتهم لم تكن محترفة ، ولم يتم تزويد مقاتليها بخرائط حديثة . كانوا ضائعين في المنطقة . " ، وفي التقرير اعتراف بأن بعضهم قاتل في شجاعة . أما عدم الاحتراف وغياب الخرائط فهذه من عيوب الأداء العسكري المصري التي اتصف بها في حروب 1948 و 1956 و1967، وتخلص نسبيا منها في حرب 1973 ، فحققت القوات المصرية في الأسبوع الأول من الحرب منجزات عسكرية كبيرة كان من الممكن أن تكون حاسمة وذات مردود سياسي لولا التدخل الأميركي المباشر في الحرب . وما قيل عن عيوب الوحدة المصرية التي كانت تنوي مهاجمة مستوطنة نحشون اليسارية ؛ يمكن أن يقال أسوأ منه عن القوة الصغيرة ، 100 جندي ، التي أرسلتها مصر في تلك الحرب ، واستقرت في منطقة اللطرون على الطريق الواصل بين القدس ويافا متجاورة مع قوة أردنية . السوء يظهر في الهدف الذي حددته القيادة المصرية لتلك القوة ، وهو الاستيلاء على قواعد الجيش الإسرائيلي في اللد والرملة وتل نوف ! كيف يمكن أن تكلف قيادة عسكرية هذا العدد الصغير بتحقيق هذا الهدف الكبير في وسط يسيطر عليه العدو كليا ، وتجهل القوة الصغيرة كل شيء عنه ؟! وكان مصير أكثر جنودها القتل ، وقليل منهم أسر وهجر مع الفلسطينيين الذين هجرتهم إسرائيل إلى الأردن ، وكان محظوظا بنجاته . قد يقول قائل إن هذه حرب ، وكل محارب فيها يريد قتل المحارب المعادي . هذا صحيح ، ولكن للحرب قوانينها المتفق عليها دوليا ، ومنها أن الجنود إذا كانوا في حال أقرب إلى الأسر منهم إلى حال القتال يجب أن يؤسروا ، وتقدم لهم حقوق الجنود الأسرى إلى أن يفرج عنهم بالوسائل المتعارف عليها دوليا ، مثل تبادل الأسرى بين الدول المتحاربة . إسرائيل كثيرا ما تمردت على تلك القوانين ، وقتلت جنودا في موقف الأسرى قتاليا ، ومن ذلك قتلها 300 أسير مصري وفلسطيني في ما يعرف بمجزرة العريش في 1967 وغيرها في سيناء ، ومن " غيرها " هذا ، الأسرى الذين قتلهم الضابط اليهودي العراقي فؤاد أليعازر الذي صار وزير دفاع في ما بعد ، وصادق الرئيس حسني مبارك ، وكان يطلع الإسرائيليين على أخباره في ثورة يناير 20011 مؤكدا أنه يتلقى تلك الأخبار منه مباشرة . وفي العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة في أكتوبر 1956 أحرقت القوات الإسرائيلية مجموعة من الجنود المصريين وجدتها في غرفة طينية في منطقة القرارة شرق شمالي خانيونس . والكشف الذي يقوم به الإعلام الإسرائيلي عن تلك المجازر الإجرامية ضد الجنود والمدنيين العرب خاصة الفلسطينيين ؛ يطرح قضايا كثيرة ، منها عدم خوف الإسرائيليين من أي عقاب على تلك المجازر ، وجهل العرب لها جهلا خطيرا غريبا في زمن تعدد وسائل المعرفة وسهولتها ، وهذا الجهل لا صلة له بمجازر خاصة ببلدان أخرى ، وإنما هي مجازر تخص بعض العرب ، فعلمهم بها واجب وطني وأخلاقي ملزم ، والتقصير فيه يوجب محاسبة المقصرين حسابا يردع سواهم عن اقترافه أو اقتراف ما يشبهه مرة أخرى . إنما ما العمل مع بلدان تدار كل شئونها ، كبيرها وصغيرها ، بالفهلوة والارتجال ؟! بلدان لا قيمة للإنسان فيها حيا ، فكيف ستجعل لموتاها قيمة ولو كانوا شهداء في حروبها ؟! ولو كان الإسرائيليون يعلمون أن الإنسان غالٍ في العالم العربي لترددوا في قتل أي مواطن عربي . وهذه فكرة شائعة عن العرب . وعندما قيل لبوش الابن إن حربه العدوانية على العراق ستقتل الأبرياء أجاب : " هؤلاء الناس لا قيمة للحياة عندهم . " . ولم نسمع من مصر حتى الآن أي كلمة حول نبأ مجزرة نحشون . ورحم الله الشاعر المصري الذي قال يوما مباهيا بمصر : بَكَرت تباهي بالرفات الجيلا = واستقبلت جنديها المجهولا . فما بال مصر اليوم لا تسأل عن جنودها المجهولين ، ولا تنام حتى تسترد رفاتهم الطهور ؟ لا عزة لنا ولا قيمة عالية إلا إن أعززنا الإنسان في بلادنا حيا وميتا .