تهافت الرأي القائل بفصل الدين عن الدنيا أو تحديدا فصل الدين عن السياسة
توصلت فيما أتوصل به يوميا عبر الوتساب من أخ فاضل بمقولة لأحد المفكرين المغاربة يقول فيها : " عندما يتدين المرء لنفسه ، فهو يمارس الدين ، وعندما ينادي الآخرين ليتدينوا، فهو يمارس السياسة " . وهذه العبارة هي التعبير الشائع لدى من يستأثرون بالممارسة السياسية دون غيرهم خصوصا المتدينين منهم . وهي مقولة ظهرت أول الأمر في القارة العجوز يوم اشتد الصراع بين الكنيسة التي كانت مستبدة بأمور الدنيا باسم الدين وبين خصومها الذين أرادوا إقصاءها عن أمور دنياهم، فقرروا فصل الدين عن الدنيا أو فصل السياسة عن الدين ، وجعلوه القاعدة التي على أساسها نشأت العلمانية الغربية ، وعنهم اقتبسها غيرهم لتصير بعد ذلك قانونا يجرم من لا يقر به .
ولا يكاد يخلو كلام أنصار التوجه العلماني عندنا في كل مناسبة من ترديد عبارة فصل الدين عن الدنيا أو فصل الدين عن السياسة خصوصا وقد استطاعوا تكوين لوبي ضاغط في البلاد ، واستطاعوا نقل معركتهم ضد الإسلام إلى كل المجالات ، وإلى كل المحافل الرسمية وغير الرسمية .
فهل بالفعل تستقيم فكرة فصل الدين عن الدنيا أو تحديدا فصل الدين عن السياسة ؟ وأول من يوجه له هذا السؤال هو الإسلام الذي يمثله القرآن الكريم، وهو الرسالة العالمية الخاتمة الموجهة إلى الناس أجمعين إلى يوم الدين ، كما تمثله سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم . وفي بداية الجواب عن هذا السؤال لا بد من سؤال آخر يفرض نفسه بإلحاح، وهو كيف يمكن أن يكون الإسلام رسالة خاتمة من الله عز وجل إلى العالمين دون أن يكون منهاج حياة لهم ينظمها بكل مجالاتها لا فرق في ذلك بين سياسة أواقتصاد أواجتماع .... ؟ وهذا السؤال يجرنا إلى سؤال أخر هو : ما هي حدود التدين أثناء ممارسة الحياة اليومية ؟ والأجوبة عن هذه الأسئلة الكبرى هي مفتاح الفصل في الخلاف بين من يريدون فصل الدين عن الحياة أو فصله عن السياسة تحديدا ، وبين من يخالفونهم هذا الرأي .
والمتأمل في القرآن الكريم يجد فيه ما يغطي كل نواحي الحياة سياسة، واقتصادا، واجتماعا ،وهو يقص علينا مسار نبي الإسلام خاتم المرسلين والمبعوث إلى العالمين ، وهو مسار يغطي كل ظروف الحياة من حرب وسلم، وهذه لها صلة مباشرة بالسياسة أو هي من صميم السياسة ،ذلك أنه لا يمكن أن يحارب أويسالم إلا من يكون سياسيا بامتياز كما هو حال الساسة عبر تاريخ البشرية الطويل ، وفضلا عن مساره عليه الصلاة والسلام المرتبط بالحرب والسلم ، فقد كانت له سفارات مع عظماء زمانه ، وهي أيضا أمر من صميم الممارسة السياسية ، وبضاف إلى ذلك سياسته الداخلية مع أتباعه .
أما ما جاء في القرآن الكريم من أمور الاقتصاد وهو صنو السياسة لا ينفك عنها إذ لا اقتصاد بلا سياسة، والعكس صحيح أيضا ، فنجد آيات تتعلق بمختلف المعاملات الاقتصادية من بيوع وديون... وغيرها والتي خاض فيها الفقه، فكانت النتيجة ما لا عد له من المجلدات الفقهية . ولقد كانت كذلك قسمة الميراث في كتاب الله تعالى ممارسة اقتصادية بامتياز لا مثيل لها في كتب سماوية سابقة ، وإذا لم تعد هذه القسمة من الاقتصاد فما الذي يعد اقتصادا بعدها ؟
وأما ما جاء في كتاب الله عز وجل من قضايا اجتماعية ، فيكفي أن نشير إلى أن مدار حديث هذا الكتاب هو حياة الإنسان فردا وجماعة ، وما يرتبط بها من مختلف العلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية لا يتسع المجال في مثل هذا المقال لسردها . وإذا لم يكن ما جاء في هذا الكتاب من أحوال الناس من الاجتماع، فماذا عساه أن يكون ؟
وعلى من ينكرون علاقة الدين بالحياة أو بالسياسة باعتباره كونه منهاج حياة أن يثبتوا من خلال نصوص القرآن الكريم ،ونصوص الحديث أنه كذلك ، وإلا كان ما يزعمونه محض ادعاء وهراء لا سند له لا من نقل ولا من عقل .
والذين يروجون لمقولة فصل الدين عن السياسة من العلمانيين عندنا تحديدا في المغرب يواجهون تناقضا صارخا عليهم الخروج منه بما يقنع ، ويتعلق الأمر بإمارة المؤمنين، وهي أمر من أمور الدين، يمارس الأمير بموجبه السياسة ، والاقتصاد ، والاجتماع ... ولعل رسالته الأخيرة إلى الشعب عموما ، وإلى من يثيرون قضايا من قبيل قضية مدونة الأسرة من العلمانيين خصوصا خلال خطاب العرش الأخير قد حسمت الأمر بالنسبة لممارسة إمارة المؤمنين السياسة باحترام ضوابط الدين التي تمنع تحريم الحلال أو إحلال الحرام ، ولا تسمح باجتهاد مع وجود نصوص قرآنية قطعية الدلالة . ولو صحت مقولة فصل الدين عن الحياة أو فصله عن السياسة، لما كان من معنى لما جاء في خطاب العرش، وهو خطاب سياسي تضبطه ضوابط الدين .
وفي الأخير نقول إن مقولة فصل الدين عن الدنيا أو فصله عن السياسة المتهافتة ،هي مقولة وافدة من مجتمعات غربية علمانية يراد تسويقها عبثا في المجتمعات التي تدين بدين الإسلام ، ومسوقوها من دعاة العلمانية من بني جلدتنا الذين يقومون بالدعاية لها نيابة عن أهلها في الغرب ، وقد تغلغلوا في مراكز صنع القرار ، وهم عبارة عن لوبي أو جماعة ضغط تريد تحقيق أهدافها باقتحامها كل مجالات الحياة التي ينظمها الشرع الإسلامي لتصير خاضعة لقوانين العلمانية الوضعية . وستبقى هذه المقولة المتهافتة إما تعبيرا عن سذاجة لدى السواد الأعظم الذي يرددها مقلدا دون فهم دلالتها أو حجة على سوء نية وطوية من هم على قناعة تامة بتهافتها ،ومع ذلك يسوقونها لحاجة في نفوسهم وتضليلا للسواد المخدوع .
وسوم: العدد 992