في صناعة المعرفة مقالة في الإلحاق والاستلحاق
ويروج بين الناس، وفي موقع التواصل هذه الأيام، أحاديث متوفزة متنافرة عن الإلحاق في كتب التراث. وبعض الناس إذا صارت إليهم المعلومة كالحصاة نفخوا فيها حتى تكون جبلا، طلبا للتهويل وللتشكيك.
والإلحاق والاستلحاق مصطلحان علميان تنبه لهما نقلة تراثنا العلمي، جزاهم الله خيرا بما حفظوا هذا التراث من سور الحياطة والصيانة. وهذه مقالة موجزة تنبه المثقفين والمتابعين لما يفتح على أمتنا من أبواب الشبهات تشكيكا في تراثها ومرجعياتها..
وتنبه واضعو المنهج من العدول الضابطين من صناع المعرفة، وحراسها، إلى إمكانية أن يقوم مريض القلب مغرض صاحب هوى بالدس على العلماء الثقات النابهين، ونسبة مذاهب أو أفكار أو أقوال أو آراء إليهم...يتم هذا بطرق كثيرة متعددة منها العابر، كأن يكون الرجل في مجلس جدل ومماراة، فيعوزه الدليل، أو يحتاج إلى حجة، فينسب رأيا إلى عالم أو ثقة ليدعم قوله، ولا يكون في المجلس من يسأله: أين قال؟ أو كيف قال؟ أو متى قال؟ ولكل سؤال دلالة..
وأحيانا يقوم صاحب الهوى، مريض القلب، بنسبة كلام أو رأي للعالم الثقة، على وجه التهمة، أو التشهير بهذا العالم ،أو الإساءة إليه، بنسبة ما لا يليق إليه من الاعتقادات والآراء الشائنة، يفعل ذلك – فتنبه – على سبيل البهت والاختلاق أصلا، أو على سبيل الاجتزاء من رأيه وكلامه، أو على سبيل التحريف وإساءة التوجيه، وكل هذا مما لا ينبغي أن يغيب عن الأكياس من أصحاب الفطنة..
في تاريخنا المعرفي، تفطن صناع المعرفة وحملتها وحماتها إلى ضروب من الاختراقات قد تحدث عمدا أو سهوا، بحسن نية أو غيرها، فتسبب خللا أو وهنا في بناء المعرفة، وسأحدثك ببعض هذا الحديث، ردا على ما تلوكه ألسنة بعض المشككين..
وأبدأ من العلم الأقدس عندنا علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دخلت في تفاصيل هذا العلم الشريف المنيف، ستجد العلماء قد حددوا قسما منه ألحقوه بالضعيف وسموه الحديث "المدرج" قال البيقوني رحمه الله تعالى:
والمدرجات من الحديث ما أتت .. من بعض كلام الرواة اتصلت
وخلاصته أن يكون المحدث يحدث بالحديث الشريف، فيعرض له عارض، فيذكر في درج كلامه على سبيل الشرح أو التوضيح، أو لطروء طارئ، كلاما ليس من أصل الحديث، فيقع الوهم لدى المتلقي، فيظن أن الكلام بعضه من بعض. وفي كتب المحدثين تفصيل للحديث المدرج، ,وأن الإدراج يكون في السند كما يكون في المتن، ويمكن العودة إلى تفصيله. وإنما ذكرته لأنه يشكل صورة لموضوع مقالتنا اليوم.
وإذا كان المحدثون قد تحدثوا عن الأحاديث الموضوعة، وبينوا كذبها وزيفها، فإن موضوع هذه المقالة هو الحديث عن "موضوعات الكتب والأفكار" وكيف تصدى لها علماؤنا المنهجيون المتقدمون.. أثارة من علم أضعها بين أيدي الناس، قطعا للطريق على الريبة وأهلها..
أولا وتنبه علماؤنا الأولون أن أصحاب الريبة وأهل الأهواء، قد يقومون، بتحميل العلماء الثقاة أقوالا ما قالوها ولا علاقة لهم بها..
وارجعوا إلى كتب التراث وانظروا إلى كثرة ما حُمل على سيدنا ابن عباس..
وفي الرواية تروى للطرفة، أن سادتنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين رحمهما الله تعالى دخلا مسجدا لصلاة، فسمعا قصاصا على عرندس، يكثر من القول: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يحيى بن معين، ويأتي بطامات وغرائب، لم يسمعا بها قط، فأراد يحيى بن معين أن يواجهه، ونهاه الإمام أحمد عن ذلك، وقام يحيى وقال له: يا هذا أنا يحيى ابن معين، وهذا أحمد ابن حنبل، والله ما رأيناك ولا حدثناك قط.. فرد عليه القصاص الكذاب المتبجح على عرندسه وسط جمهوره، كأن الله لم يخلق يحيى وأحمد غيركما!! أنا أحدث عن أربعين رجلا كل منهم يسمى يحيى ابن معين وأحمد بن حنبل...
على سبيل "الإلحاق" كان بعض أصحاب الأهواء يكتبون كتبا وينسبونها إلى القادة وإلى أهل العلم، بعضها لنصرة وترويج ما فيها، وبعضها للإزراء على هؤلاء العلماء وتشويه سمعتهم.
من هذه الكتب مثلا، كتاب "نهج البلاغة" في ديوان مجموع للخطب الدينية والسياسيةـ المنسوبة لسيدنا علي رضي الله عنه، ولا أحد يعلم طريقا متصلا لهذه الخطب بسيدنا علي غير نسبة الشريف الرضي، وبينه وبين سيدنا علي ثلاث مائة عام!! ولأهل العلم في واضع هذه الخطب أقوال..
ومن هذا مثل من القديم كتاب "الإمامة والسياسة" المنسوب زورا لابن قتيبة، والذي يقال عنه – ابن قتبة – كان لأهل السنة كما الجاحظ للمعتزلة، وترجع إلى الكتاب فتجده مكتوبا بقلم شيعي خبيث، دسه دسا على إمام من أئمة أهل السنة ترويجا لفكره المنحرف...
ومن هذا في العصر الحديث وفي القرن العشرين "كتاب المراجعات" والذي يدور بين الناس حتى اليوم، على أنه حوارات – مدعاة مكذوبة – بين مؤلفه الرافضي الوضاع الكذاب الخبيث وبين شيخ الأزهر سليم البشري رحمه الله تعالى. كذب وافتراء في ضوء شمس القرن العشرين. وما يزال الكتاب يطبع ويباع، ومن حق أن يحاكم كاتبه وطابعه وناشره.
في التاريخ العلمي كتب غير قليلة كتبها كتاب مجهولون باسم ملل ونحل وطوائف وشخصيات ونسبت إلى آخرين على ما ذكرت لك من الوجوه. وكل ذلك توقف عنده أهل العلم، ووضعوا إشارات الشك والريبة أو أحكام الرفض عليه..
من طرائق التسلل إلى تراثنا العلمي، ما يثيره بعض الناس اليوم، ولم يغب أبدا عن صناع المعرفة المنهجيين، وهو أن يقوم بعض النساخ وهو ينسخ بعض المطولات من كتب العلم بإدراج أو بإلحاق أو بإقحام كلام على نص المؤلف الأصلي..
وتقرأ أحيانا فتتساءل هل قال هذا الإمام حقا هذا القول. ويحدث هذا في كل اتجاهات المعرفة. وموضوعاتها.
وتسامحوا بأن يقوم الناسخ بإجلال الله تعالى وتعظيمه، أو الصلاة والسلام على رسول الله، حيث غفل المؤلف عن ذلك. وما عدا ذلك فقد أصروا على الناسخ أن يبين أي لفظ أو شرح أو توضيح يضيفه، ولكن...
وسؤالنا اليوم: ما هي المناهج والاحتياطات التي وضعت، لمنع عمليات الاختراق المعرفي هذه، وهي عملية خطيرة بكل أبعادها، وهي صورة من صور البهتان وشهادة الزور..
في تاريخنا العلمي، كان هناك منهج توثيق نسخة الكتاب – المخطوط – وأمر بها سريعا...
معرفة الناسخ وعدالته..
طريقه إلى نسخة المؤلف..
المطالعات والقراءات على نسخة الناسخ بمعنى من قرأها أو على من أهل العلم قرئت. ويكون هؤلاء بمثابة الشهود.
ثم قرب عصر النسخ من عصر المؤلف. فكلما كانت النسخة من عصر المؤلف أقرب كان احتمال التسلل إليها أقل.
وقراءة النسخة أحيانا على المؤلف نفسه. أو على أحد تلامذته أو القريبين منه..
وفي العصر الحديث ما تزال هذه المنهجية العلمية أكثر مراعاة في تحقيق الكتب. وفي الطبع عن النسخ الأصح والأوثق..وكذا مقارنة عدة نسخ على بعضها، وضبط أي اختلاف بينها ولو كان يسيرا...
مؤلفات وأشعار كثيرة ألحقت بشخصيات علمية على خلفيات شتى منها مللية شيعة ومعتزلة ومرجئة، ومنها فلسفية وفكرية ومنها ما يتعلق بعلم التصوف. في كتابه "مؤلفات الغزالي" الذي أحصى فيه عبد الرحمن بدوي، كتب حجة الإسلام، نفى عنه العديد منه.
وقرأت نسخة مما يسمى "إنجيل برنابا" وانا فتى حدث، وعلمت أنه قد دس فيها ما ليس منها. من قبل ناسخ جاهل محسوب على المسلمين. وفي البشارة فيه أن المسلمين إذا سمعوا المؤذن يشهد أن محمدا رسول الله قبلوا أطراف إبهامهم..
وتقرأ شعر منسوبا، وقولا مشهورا، وكل ذلك مما ينبغي التحقيق لا التشكيك فيه. فالعلم تحقيق. والجهود العلمية المبذولة في المطبوع المحقق تحقيق إتقان، لا مجال للريبة أن تتطرق إليها..
وأما الاستلحاق، فهو ما يعرف بالسرقات الفكرية سواء كانت فكرة أو كتابا...
وسوم: العدد 1003