الهوية الإسلامية وطبيعة تفاعلها مع غيرها
لفظ "هوية " مشتق من لفظ الضمير" هو " الدال على الغائب المفرد المذكر، والهوية لغة هي حقيقة كل شيء وصفاته الجوهرية التي تميّزه عن غيره، واصطلاحا هي وصف لمفهوم الذات وتعبيرها عن مميزاتها الفردية وعن علاقاتها بغيرها . ولا يختلف كثيرا المعنى اللغوي للهوية عن المعنى الاصطلاحي، حيث يلتقيان في الدلالة على ما يميز الذوات عن بعضها البعض على اختلاف أنواعها سواء تعلق الأمر بأفراد أو بجماعات وكيانات ... .
وهوية الشخص أو الهوية الفردية على سبيل المثال هي جنسه، واسمه ، وصفاته ،وتاريخ ميلاده ... ولهذا تطلق الهوية على بطاقة تعريفه ، أما الهوية الجمعية فتطلق على السمات المميزة لمجموعة بشرية يجمع بينها مشترك إما ديني أو قومي أو وطني أو عرقي أو لغوي أو خليط من كل ذلك ....
والهويات الجمعية محكومة ضرورة بمعتقد وبقناعة وبمرجعية ، وهو ما يجعلها إما في حالة تعايش أو في حالة صراع واصطدام فيما بينها خصوصا عندما ينزع بعضها إلى تحقيق وجوده على حساب وجود غيره ، وهذا ما يعني طبيعة تفاعلها مع بعضها البعض ، وهو تفاعل قد تطبعه السيطرة، والقيادة ،والتعالي الذي تقابله التبعية والخضوع ، لهذا نجد هويات تهدد أخرى في كيانها ووجودها باستهداف ثوابتها ومميزاتها ، وتنزع نحو الرغبة في ابتلاعها أو على الأقل طمس بعض مميزاتها .
والهوية الإسلامية وهي موضوع مقالنا لها مرجعيتها وقناعتها الخاصة بها ككل هوية ، فهي ترتكز في وجودها على رسالة سماوية عالمية خاتمة تتضمن المميزات الخاصة بها ، ولهذا هي تواجه من طرف هويات متعددة لا تستسيغ فكرة عالميتها المكتسبة من عالمية رسالتها التي هي مرتكزها ، وهو ما تسبب في اندلاع صراع بينها وبين غيرها من الهويات منذ البعثة النبوية ، وهو صراع لازال قائما ، وسيظل كذلك إلى نهاية العالم وقيام الساعة .
ومعلوم أن الهوية الإسلامية جذورها ضاربة في عمق التاريخ البشري لأنها وجدت منذ أوحى الله تعالى إلى أول نبي ما أوحى ، وظلت كذلك مع توالي الوحي إلى جميع الأنبياء حتى آخرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام . ولقد أكدت الرسالة الخاتمة ذلك حيث وصفت الرسل والأنبياء جميعا بأنهم كانوا مسلمين أو بتعبير آخر كانت هويتهم إسلامية بالرغم من اختلاف عصورهم وبيئاتهم التي بعثوا فيها .
ولقد كان من المفروض باعتبار ما نصت عليه الرسالة الخاتمة أن تكون للبشرية هوية واحدة هي الهوية الإسلامية التي تستوعب كل الشعوب والقبائل والأعراق والأجناس كما جاء في هذه الرسالة حيث يقول الله تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ، وفي هذا القول ما يفصل قطعا في أمر الهويات العرقية التي يجب أن تكون تحت مظلة الهوية الإسلامية الجامعة ، وهي الهوية الأكرم عند الله عز وجل .ومع أن هذا المفروض لم يتحقق في واقع البشرية ولن يتحقق إلا ما شاء الله عز وجل لأنه لو تحقق لما كان من معنى لابتلائها في هذه الحياة الدنيا لمحاسبتها في الآخرة كما اقتضت ذلك إرادة الله عز وجل . ومع عدم تحقق ذلك عمليا في الواقع ،فإنه لا يؤثر في الطبيعة العالمية للهوية الإسلامية ، ولا يسقط عنها هذه الصفة أو الميزة ، وستظل كما أراد لها الله تعالى ذلك .
إن الداعي إلى الخوض في موضوع طبيعة تفاعل الهوية الإسلامية مع غيرها من الهويات في عصرنا هذا تحديدا هو استهدافها المكشوف في عقر دارها بالبلاد الإسلامية التي تسطر في أعلى دساتيرها عبارة الإقرار بهويتها الإسلامية لكنها مقيدة بعد ذلك بما تفرضه عليها هويات أخرى مما يناقض مميزاتها الخاصة بها، علما بأن تلك الهويات تدعي لنفسها ما للهوية الإسلامية من عالمية ، وهو ما تسميه عولمة .
والمتصفح لدساتير البلاد الإسلامية التي تخلط بين مقتضيات هويتها الإسلامية وبين مقتضيات غيرها من الهويات يسجل عليها تناقضا صارخا نظرا لتعارض المقتضيات هنا وهناك ، ولنضرب على ذلك مثالا من دستورنا المغربي الذي ينص على الهوية الإسلامية في أعلاه ثم تعقب ذلك الإشارة إلى مقتضيات هويات غربية لا تتناغم مع مقتضياتها بل أكثر من ذلك تنقضها نقضا . ومما ينقض مقتضيات الهوية الإسلامية ما يسمى بالمواثيق والقوانين والأعراف الدولية الوضعية ذات الطابع الإلزامي تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته .
والإشكال المطروح هنا هو استحالة التوفيق بين مقتضيات الهوية الإسلامية ذات الطابع الديني ، ومقتضيات الهويات التي تتبني المواثيق والقوانين والأعراف الدولية ذات الطابع الوضعي ، ومع استحالة التوفيق يكون البديل هو التلفيق الذي يحدث ارتباكا داخل المجتمع المغربي حيث تفرخ في صلب هويته الإسلامية هويات دخيلة فتحدث صراعا حادا وعميقا وخطيرا بين أفراده ، ولنضرب على ذلك مثالا ويتعلق الأمر هنا بمدونة الأسرة التي يتراوح الجدل حاليا حولها بين المطالبة بتغييرها التغيير الجذري ، وبين التلفيق بين ما هو ديني وما هو وضعي أو بعبارة أدق ما هو علماني .
والمطالبة سواء بالتغيير الجذري أو النسبي لهذه المدونة ،يعني نزع الطابع الشرعي عنها والذي الذي تعاقبت على اعتماده أجيال من الأمة المغربية ، وهي مدونة مرجعيتها الرسالة العالمية الخاتمة قد أصبحت اليوم توصف عند البعض بالعيب أو توسم به بل أصبحت محل اتهام ، وهو ما يسقط عن مرجعيتها طابع العالمية الذي تريد هويات أخرى الاستئثار بها تحت الضغط والإكراه والتلويح بالعقوبات المادية والمعنوية ضد كل من يرفض ذلك .
إن الصيغة التي صيغ بها دستورنا يطبعها التلفيق بين أحوال شخصية تتميز بها الهوية الإسلامية عن غيرها ، وبين أحوال شخصية من مميزات هويات أخرى على طرف نقيض معها ، وهو ما يحدث شرخا عميقا في المجتمع لأن هذا التلفيق يقتضي وجود واعتماد واحدة فقط من تلك الأحوال الشخصية مع تعطيل غيرها ضرورة إذ كيف يمكن للفرد المغربي أن يجمع بين مقتضيات هويته الإسلامية التي ارتضاها طواعية واقتناعا ، ومقتضيات غيرها من الهويات الأخرى المفروضة عليه قسرا وقهرا ؟
ولقد أصبحت اليوم جهات عدة تطالب بتضمين مدونة الأسرة ما ينقض مقتضيات هويتنا الإسلامية تحت شعار الحقوق والحريات وفق المتعارف عليه مما يسمى قوانين ومواثيق دولية . ولا شك أن المطالبة بتغيير مدونتنا الشرعية بما يسمى مدونة مدنية ـ علما بأن المقصود بالمدينة هو بكل صراحة اللادينية ـ لن يقف عند حد بعض اللمسات أو التعديلات أو ما يعبر عنه " بالروتوشات " التي قد تبدو بسيطة بل سيتخطى لا محالة ذلك إلى ما لا تقره هويتنا الإسلامية من قبيل التوسع في الحريات بما فيها ما يسمى بحرية الجنس من رضائية ومثلية التي يقابلها في التعبير الشرعي فواحش الزنا، وعمل قوم لوط خصوصا وأن في ديباجة دستورنا ما يدل على أنه عند حصول التعارض بين مقتضيات هويتنا الإسلامية ومقتضيات غيرها من قوانين ومواثيق دولية تقديم هذه الأخيرة و يكون العمل والالتزام بها لأنها قيود مفروضة وملزمة من طرف قوى عالمية عظمى. ولا ندري كيف ستكون الأسرة التي هي النواة الصلبة للمجتمع حين تصير مكوناتها عبارة عن رضائيين ورضائيات ومثليين ومثليات ؟
وأخيرا نقول إذا كان التفاعل، وهو صيغة لغوية تدل في اللسان العربي على المشاركة في الفعل ، فإن تفاعل هويتنا الإسلامية مع غيرها من الهويات يحكمه ضابط الوقوف في هذا التفاعل عند الخطوط الحمراء لثوابت هويتنا الإسلامية غير القابلة للمساومة مهما يكن من أمر. وإذا كانت هويتنا الإسلامية يمكنها أن تلتقي مع غيرها من الهويات في متغيرات ، فإنها لا يمكن أن تلتقي معها أبدا في ثوابت، لأنه لا وجود لهوية تقبل التنازل على ثوابتها التي هي من مميزاتها الخاصة بها ، وكل تنازل عنها هو في الحقيقة نفي لذاتها .
وبناء على ما تقدم يلزم من يسمون أنفسهم حماة الهوية الإسلامية وعلى رأسهم العلماء أن يطرقوا الحديد ساخنا كما يقول المثل المغربي قبل أن تمسخ هويتنا الإسلامية ـ لا قدر الله ـ إرضاء لأهواء جهات مدعومة من الخارج الضاغط والمولح بل المهدد بالعقوبات إذا لم تحقق مطالب تلك الجهات التي تعتبر نشازا في بيئة إسلامية .
وسوم: العدد 1004