لنبحث عن ما يجمعنا لا ما يفرّقنا

حكومة السوداني بين تكريس ركائز ومواقع النفوذ الإيراني داخل العراق وخدعة "مكافحة الفساد" للتضليل الشعب (حلقة 2) 

ناجي حسين

فهل يا ترى أن شروط إعتماد نظام حكم فيدرالي متحققة فعلاً في (العراق الجديد)حالياً الذي أسسسه المحتل الأمريكي البريطاني والصهيوني؟، فالعراق أساساً دولة موحدة دستورياً منذ أكثر من مائة عام، وليس العراق الآن مجموعة دول أو ولايات يراد توحيدها بدولة إتحادية فيدرالية أو ما شابه ذلك . 

ورب قائل يقول أن الفيدرالية تمثل حلاً لمشكلة مزمنة، يعاني منها العراق منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 وإلى يومنا هذا، إستنزفت موارده البشرية والمادية، تمثلت بالخيانة الكردية ضد الحكومات العراقية المتعاقبة، بهدف الإنفصال عن العراق وإقامة دويلة كردية خاصة بهم،على طريقة الكيان الصهيوني العنصري المغتصب أرض فلسطين العربية، مع العلم أنه لم يجر في العراق أي تمييز بين العرب والأكراد وسواهم ، ففي النظام الملكي العراقي تبؤ الأكراد أعلى الواقع الحكومية (رؤساء وزراء ووزراء وقادة عسكريين)، حيث ركز الملك فيصل الأول على مفهوم "الهوية العراقية"، وحتى عندما حاولت بريطانيا إستغلال الورقة الكردية فإن موقف الملك فيصل لم يتغير، كذلك كان دستور عام 1958 الوثيقة الرسمية الأهم التي تم تدوين فيها الأعتراف الصريح بالوجود الكردي. فقد جاء في المادة الثانية منه أن العرب والأكراد شركاء في الوطن العراقي.وفي 11 آذار 1970 تحقق للأكراد أعتراف بهويتهم عندما تم تثبيت حقهم في الحكم الذاتي في الوثيقة التي أصدرتها الحكومة الوطنية العراقية. وهو ما قد تحقق فعلاً بإقامة منطقة الحكم الذاتي للأكراد عام 1975، كان العراق الدولة الوحيدة بين الدول التي يسكنها الأكراد التي تعترف بالوجود الكردي. ولم يمنع الأكراد من إستخدام لغتهم ومن حقهم في التمسك بهويتهم القومية، في حين أن إيران وتركيا ينكرون على الأكراد كل شيء يشير إلى هويتهم الكردية.

من ذلك نخلص أن لا وجود لتعسف قومي أو مظلومية للأكراد في العراق في مختلف العهود، وأن حالهم كان حال مواطنيهم العراقيين من مختلف القوميات في السراء والضراء، أن الخيانة الكردية قد إستخدم من أطراف دولية وإقليمية كورقة ضغط ضد الحكومات العراقية المتعاقبة لأسباب معروفة، أما مستوطنة إسرائيل فقد حرصت منذ البداية على دعم العصابات الكردية المسلحة الإنفصالية بكل الوسائل وصولاً إلى إرسال الأسلحة والمدربين، لإضعاف الجيش العراقي الوطني وإعاقة مساهمته في أي مواجهة عسكرية مستقبلية بينها وبين الدول العربية. وبمرور الوقت فقد إزداد إعتماد الدول المعادية للعراق على إنعاش العصابات الكردية الإنفصالية لتمزيق الوحدة الوطنية. ويكفي أن نشير هنا إلى إنهيار التمرد الكردي الإرهابي السريع عام 1975 بعد توقف الدعم العسكري الإيراني لهذا التمرد الإرهابي، بموجب إتفاقية الجزائر المعقودة بين الحكومة العراقية والحكومية الإيرانية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي. وهو ما يؤكد عدم جواز الإعتماد أو الإتكاء على دعم القوى الأجنبية التي لا يهمها في المقام الأول سوى مصالحها .

نعود إلى موضوع الفيدرالية ، ونتسائل هل أن النظام القائم حالياً في العراق، نظام حكم فيدرالي حقاً كما يحلو لحثالات العملية السياسية المخابراتية ونظامها الطائفي العرقي تسميته ؟. بكلام أوضح، هل توجد دولة في العراق بمفهوم الدولة حالياً، بالحقيقة هي دولة اللانظام التي ينخرها الفساد والفشل وتعم فيها الفوضى وتتعدد فيها مراكز القرار والنفوذ، وضياع المسؤولية وعدم المحاسبة .

جاء في المادة (1) من الدستور العراقي الذي كتبه الصهيوني نوح فيلدمان : "جمهورية العراق دولة إتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق”.

وهنا نتساءل من هي أطراف الدولة الإتحادية إذا كان العراق أساساً دولة واحدة ولم يكن يوماً دولاً متعددة، توحدت في دولة واحدة كما حصل ذلك في أتحاد ماليزيا أو الإمارات العربية المتحدة  أو الدول الغربية ؟. فهل تستطيع الحكومة الإتحادية فرض نفوذها وممارسة سلطتها الدستورية بموجب صلاحياتها الدستورية في شمال العراق المحتل كأي حكومة إتحادية في العالم ؟ وهل يستطيع المواطنون العراقيون من سكنة المحافظات العراقية العيش والتنقل في محافظات شمال العراق المحتل بحرية، أم هم بحاجة إلى كفيل كردي ضامن أسوة بما هو معمول بدول الخليج العربي تجاه الوافدين الأجانب ؟ بل نذهب أبعد من ذلك هل يستطيع رئيس الوزراء العراقي محاسبة أي موظف بأي درجة وظيفية كانت في شمال العراق ؟ وماذا عن ثروات شمال العراق من نفط وغاز وغيرها التي تتصرف بها عصابة البرزاني والطالباني وغيرهم على سرقتها بينما هي ملك الشعب العراقي بأسره ؟ كما لا تخضع منافذ شمال العراق البرية والجوية لسيطرة الحكومة الإتحادية على الرغم من المخاطر الأمنية التي قد تنجم عنها ما يهدد أمن العراق ؟. وهل تستطيع الحكومة الإتحادية مطاردة جهاز الموساد المتغلغل بقوة وبشكل غير مسبوق في شمال العراق المحتل ؟ .نكتفي بهذا القدر من التساؤل إذ أن قائمة التساؤلات تطول .

لم يعد خافياً على أحد أن أسباب تلك المعارك المعروفة  بين عصابة البرزاني وعصابة الطالباني على مدار الحرب في شمال العراقي التي دارت في منتصف التسعينيات حتى عام 1998 من القرن العشرين. كان التنافس على مردودات المنافذ الحدودية ويسمى (السوق البترولية السوداء ) هو السبب المعروف لدى القاصي والداني في شمال العراق المحتل..أنتهى هذا القتال بمعاهده سلام إبرمت في واشنطن، تمهيداً لغزو واحتلال العراق، ويبدوا أن كلا العصابتين يتهيئان لمثل هذا الظرف ..فدرالية داخل فدرالية بشكل رسمي وتثبيتا لواقع حاضر لا لبس فيه ...في المارثون السياسي يلهث كلا العصابتين في تنمية مواردهما المالية معتمدين على توافقية من نوع خاص في الأسلوب الذي يتبنى خطوات (المشاركه الكاملة في الإمتيازات الرسمية والقانونية - المشاركة في أسلوب إبتزاز القاعدة الشعبية - المشاركة في الإختلاس الفدرالي للنفط والغاز والمنافذ الحدودية – سمسرة المال السياسي) تشارك العصابتان بصورة كاملة بمردودات بيع البترول لتصل في السنوات الأخيره إلى حوالي 500 ألف برميل..و1 مليار و880 ألف قدم مكعب من الغاز الطبيعي خلال هذه الأعوام. ناهيك عن المنافذ الحدودية أيضاً تم مشاركة إيراداتها ونتيجة لضغط حكومة المركز على هذه المسالة، أفتتح كلا العصابتين منافذ غير رسمية وبالتساوي لكليهما. ومن الواضح أن سمسرة المال السياسي بعد عام 2003 تحولت (الأتاوه) التي كانت العصابتين يفرضانها على القطاع الخاص بشقيه التجاري والصناعي إلى سمسره لكبريات الشركات، التي وفرت لها أيضاً  شروط احتكارية لنشاطها الخاص ...ووفق وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية عام 2006 ونشرها موقع ويكليكس تحت عنوان (الفساد في الشمال  الكردي ) .. فان رجال الأعمال في سعيهم للحصول على عقود حكومية فإنهم يدفعون ما مقداره (10 – 30% ) من قيمة العقد لشركة تابعة لأحد عملاء العصابتين و10% لمسؤول الدائرة الحكومية المعنية بالعقد! وذكرت الوثيقة بالأسماء شركات تحتكر النشاطات الإستثمار في شمال العراق المحتل ،(مجموعة  فالكون –مجموعة ساندي – مجموعة نصري – مجموعة سليفر- مجموعة ستار – مجموعة كار – مجموعة إيجل).

 أن موضوع الفيدرالية أريد به أن يكون مدخلاً لتفتيت العراق لا لتوحيده، وكانت دكاكين السياسية الكردية بمختلف توجهاتها في مقدمة المروجين لذلك، ظناً منها أن ذلك سيمهد لتحقيق أوهامهم بتأسيس دويلة كردية .

نعود إلى موضوع الفيدرالية بشكل أوضح ، الكونفدرالية قانونياً تتكون من أتحاد دولتين مستقلتين أو أكثر والأكراد التي قد تظهر وفق الدستور العراقي مستقبلا، هذا الدستور الذي كتبه الصهيوني نوح فيلدمان وبصم عليه جميع حثالات في منطقة الغبراء ببغداد ، لا يحق لها تبني الكونفدرالية في علاقاتها مع بغداد، لكن من حقها التمتع دستورياً بذلك الحق، وحقها في الفدرالية يعني انه لا يجوز لإحدى الدول الإنسحاب من الدولة الفدرالية لتأسيس دولة مستقلة

والفدرالية والتي نراها في العديد من الدول، هي دولة واحدة تتكون من كيانين أو أكثر لها نظامها القانوني وغيره من المؤسسات، إلا أنها تخضع لدستور فدرالي وهو الفيصل في حل مشاكل الطرفين أو الأطراف المتنازعة، كما ولها دستورياً وقانونياً رئيس دولة واحد وجيش واحد وعلم واحد وعملة واحدة وتمثيل دبلوماسي واحد، وهذا ما لا نراه في العلاقة بين بغداد وعصابة البرزاني والطلباني المتصهينة الذين يسعون لتكريس حالة الإنفصال من خلال أغتصاب الأراضي العراقية على طريقة الكياني الصهيوني الذي أغتصب أرض فلسطين العربية.

الأكراد على تلك النظرية بالرغم من أنهم لم تكن لهم يوماً ما دولة في الأراضي التي يقيمون عليها.أما جمهورية مهاباد التي أقيمت في إيران في خمسينات القرن العشرين فقد كانت كذبة الاتحاد السوفياتي السابق سرعان ما انهارت بعد أن تخلى الروس عنها. صدق الأكراد تلك الكذبة ولم يعد في إمكانهم بعدها أن يعودوا مواطنين في الدول التي يقيمون على أراضيها بعد أن أحتوتهم وأسكنتهم وقدمت لهم كل سبل العيش الكريم مثلها مثل بقية مكونات المجتمعات تلك الدول .

غير أن الأكراد يتنكرون الإنتماء إلى وطن يجمعهم بالآخرين. لقد صيغت أحلامهم على أساس قيام دويلة كردية مستقلة تضم أجزاء من دول مستقلة ذات سيادة وذات حدود ثابتة. بمعنى أن قيام دويلة كردية يجب أن يتم على حساب سيادة دول مستقلة. وهو أمر ترفضه تلك الدول ولا يقبل به القانون الدولي. وما جرى في العراق لم يكن قراراً عراقياً خالصاً، بل جاء بناء على وضع استثنائي فرضه الغزو الأنكوالصهيو الأميركي عام 2003 وبالتآمر والغدر عصابة البرزاني والطالباني وغيرهم الذين كانوا وما زالوا خنجراً في ظهر العراق تنفيذاً لمشاريع الصهيونية والأمريكية في تفتيت وحدة وسيادة العراق . فهل يعو ذلك ؟

 من أجل إنهاء الأوهام الكردية التي هي جزء من وهم الطغمة السياسية العميلة التي تطلق على نفسها بالعراق الجديد الذي صار من الصعب تخيل أنتقال دولته من الورق إلى العالم الواقعي. فدولة يبلغ تعداد منتسبي قواتها المسلحة قرابة المليون ولا تتمكن من الدفاع عن نفسها ومنع الأعداء من اجتياح أراضيها هي دولة من ورق، جيشها عبارة عن مجموعات فضائية كارتونية حسب التعبير العراقي. وفي واقع الأمر فإن الأكراد أنفسهم وإن كانوا يفخرون بتاريخ ميليشياتهم "بيش مركة" الإرهابية فإنهم يدركون أن تلك الميليشيا هي أشبه بالقوات العراقية الكارتونية لا تقوى على صد هجوم يقوم به تنظيم إرهابي مسلح مثل داعش.

ذلك كله يدفعني إلى القول إن الدويلة الكردية القائمة والمحتلة شمالي العراق هي ليست إلا وهماً شجع الأميركان والصهاينة على بقائه من خلال إقامتهم دولة ضعيفة ومفككة في العراق وهم غير مستعدين لإستعداء تركيا وإيران من أجل أن يتحول ذلك الوهم إلى أمر واقع، بدليل أن الإمبريالية الأمريكية لم تندد يوماً ما بالهجمات التركية والإيرانية التي يتعرض لها الجزء الشمالي المحتل من العراق بين حين وآخر. 

وهذا يتطلب تصحيح الوضع السياسي القائم حالياً في العراق، بثورة شعبية كبرى تطيح بالعملية السياسية المخابراتية ونظامها المحاصصي المقيت وإقامة حكومة عراقية وطنية حرة بعيدة عن أشكال المحاصصة الطائفية والإثنية وتدخلات الدول الإقليمية والدولية، همها الوطن والمواطن، بصرف النظر عن إنتماءتهم الأثنية والدينية والمذهبية، والإيمان بوحدة العراق أرضاً وماء وسماءاً، وعدم الإستقواء بدول إقليمية ودولية المعادية للعراق لتحقيق مصالح آنية ضيقة، فمصلحة العراق يجب أن تكون فوق جميع المصالح ، فالعراق باق بإذن الله وبخيرة أبنائه الأصلاء، وهم زائلون طال الزمن أم قصر.

يتبع

قليلٌ من المفكّرين من يرى احتمال الخطأ في فكره أو احتمال الإصابة في فكر الآخر. وهذا منطلقٌ مهم لإمكان نجاح أي حوار بين أفكار وآراء مختلفة، إذ مع انعدام هذا المنطلق المشترك الذي يتقبّل احتمال الصواب والخطأ في كلّ رأي، سيسير أي حوار بين رأيين أو موقفين مختلفين في طريق مسدود.

عوامل كثيرة تدفع بعض الناس إلى الانحباس في خنادق فكرية، فيعتقدون أنّهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر جحافل "الفكر الآخر"، بينما هم  في الواقع يسجنون ما لديهم من فكر ورؤى، فلا "الآخر" يصل إليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطوّرون أو يكسبون فكراً جديداً بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجّرين.

هكذا هي أيضاً مشكلة بعض الحركات السياسية العربية، أنّها لم تحسن إدراك المفهوم الصحيح للمفاهيم المتداولة أو للانتماءات الدينية والقومية، وقام هذا البعض بخلط المفهوم الفكري والثقافي مع المضامين والمواقف السياسية، فأصبحت أخطار الممارسة مقرونة بمفهوم الانتماء أو الهُويّة نفسها. من أجل ذلك خرجت مدارس فكرية وسياسية تدين "الهُوية العربية" أو هذا الاتجاه "الديني" أو ذاك "العلماني" أو تلك الانتماءات الوطنية، بحالٍ من التعميم لكلّ ما هو يرتبط بالتيّار "الآخر"!.

فرفض "العلمانية" بالمطلق، أو الدفاع عنها بالمطلق، هو إجحاف بحقِّ المفهوم والتجارب التنفيذية له. فالعلمانية، في التجربة الأميركية مثلاً، هي لضمان حقوق كلّ الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى، بينما يتمّ استخدام العلمانية في تجارب عالمية أخرى للحدِّ من دور الدين في المجتمع. فأميركا لم تشهد تاريخياً الصراع الذي جرى في أوروبا بين رجال الكنيسة وبين قادة وأمراء الدول، ولذلك اختلف المفهوم واختلف التطبيق رغم وحدة التسمية. وهذا ينطبق أيضاً على الفارق بين التجارب العلمانية الشيوعية وغيرها من الأنظمة العلمانية الديمقراطية، حيث سعت العلمانية الشيوعية لفصل الدين عن المجتمع كلّه، لا لفصل الدين عن الدولة فقط.

ونجد حالياً في الإعلام العربي توزيعاً للحركات السياسية العربية إلى مجموعتين متصارعتين: "إسلامية"  و"ليبرالية"، دون إدراكٍ أنّ هذه التسميات لا تُعبّر فعلاً عن واقع وعقائد كل الحركات والتيّارات الفكرية العربية. إذ هل غير المنتمي لحركةٍ سياسيةٍ تحمل صفةً دينية يعني أنّه غير مؤمن أو مسلم أو على تناقضٍ مع الدين نفسه؟! وهل من هو منتمٍ لتيّارٍ سياسي ديني يعني أنّه رافض للحرّيات وللمجتمعات المدنية التي يدعو لها الفكر "الليبرالي"؟!. علماً أنّ "الليبرالية" هي مظلومةٌ في المنطقة العربية، تماماً كما هي التسميات العقائدية والسياسية الأخرى. فكثيرٌ من الذين كانوا ينشطون في بلاد العرب باسم "الليبراليين" كانوا يجسّدون عملياً نهج وسياسة من كانوا يُعرَفون في الولايات المتحدة باسم "المحافظين الجدد"، وليس نهج أو سياسة "الليبراليين" الأميركيين. فالتيّار "الليبرالي" الآن في أميركا هو تيّارٌ رافض لسياسة الهيمنة الأميركية على العالم وللتدخّل في شؤون الدول الأخرى ولحروب الإدارات السابقة، وهو التيّار الذي رفض استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، وهو التيّار الرافض للتمييز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو اللون. كما أنّ رموزاً في هذا التيّار تناهض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. فهل هذه هي سمات بعض الجماعات العربية الحاملة لتسمية "الليبرالية؟!.

فالتوافق على فهمٍ مشترَك لمعنى ومضمون أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي عمل مؤسساتي أو جهد فكري متعدّد الآراء. هذا الأمر ينطبق حتّى على ما يندرج تحت خصوصياتٍ قائمة داخل الأمَّة الواحدة. فالحلُّ لا يكون برفض المصطلح لمجرّد اختزان مفاهيم عن تجارب محدّدة سلبية تحمل تسمية المصطلح نفسه، إذ المشكلة هنا أنّ المصطلحات كلّها تعرّضت إلى تجارب تطبيقية سلبية ومسيئة، بما في ذلك شعارات الحرّية والديمقراطية.

أيضاً، فإنّ التشويه حدث ولا يزال يحدث في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس في تغيير إيجابي بكثير من أرجاء الأمَّة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية في الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم بها. فمصطلح "الشرق الأوسط" أصبح أكثر تداولاً الآن من تعبير "الأمَّة العربية". ومصطلح "المصالح الطائفية والمذهبية" أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن "المصلحة الوطنية". و"التدخل العسكري الأجنبي" تحوّل إلى "تحرير من نظام أو إرهاب"! و"الخصخصة" أصبحت بديلاً لواجبات الدولة في التخطيط الاقتصادي الشامل وفي ضمان "العدل الاجتماعي"، أمّا "الديمقراطية" فجرى اختصارها في آلياتٍ انتخابية ودمغ الأصابع بالحبر!.

ولعلّ أبرز المضامين المعطاة الآن لمفهوميْ "الشرق" و"الغرب" هي قضايا تميّز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وعقائدية وثقافية. فالغرب هو مصطلح يعني الآن الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية ونظام الاقتصاد الحر وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم.

وبالتالي، فإنّ دولةً مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، والتي هي غير معنيّة جغرافياً بتوزيع العالم بين "الشرق" و"الغرب"، أصبحت الآن دولةً فاعلة في معسكر "الحضارة الغربية"!

وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها من دول "الغرب" الأوروبي والأميركي مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها "دولة غربية" و"شرق أوسطية" معاً. إذ أنّ تسمية "الشرق الأوسط" تنزع الهويّة العربية عن المنطقة فتقضم منها دولاً عربية وتضيف إليها إسرائيل بكلّ ما تمثّله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي "غربي".

فمبدأ توزيع العالم إلى "شرق" "غرب" هو حالة نسبية ولا مضموناً علمياً لها، والاختلال في ميزان التسميات حاصل كيفما نظرنا إلى دول "الشرق" و"الغرب". أمّا على "الجهات" الأخرى، أي "الشمال" و"الجنوب"، فنجد تصنيفاً مختلفاً يعتمد على التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين دول شمال الكرة الأرضية ودول جنوبها. هو تمايزٌ يقوم على مستويات الفقر والثراء، وعلى مدى التخلّف والتقدّم في الحياة الاقتصادية والنظم الاجتماعية.

وفي الحالتين: تقسيم العالم إلى "شرق" و"غرب" أو إلى "شمال" و"جنوب"، هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات الاستعمارية التي حقّقت تقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوبٍ أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كلّه على مدار عقودٍ من الزمن تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلّفٍ في معظم المجتمعات الأخرى.

وبينما شعوبٌ كثيرة في "شرق" الأرض و"غربها"، وفي "شمالها" و"جنوبها"، خلُصت إلى قناعة بضرورة نبذ العنف بين بلدانها وداخل مجتمعاتها الخاصّة، وباعتماد النّهج الديمقراطي في الحكم والعلاقات بين المواطنين والأوطان، تزداد للأسف حالات الانقسام الدّاخلي في معظم أرجاء المنطقة العربية، وتتعمّق المفاهيم و"الهويّات" الإنشطارية في كلّ أرجاء الأمَّة على حساب "الهُويّة الوطنية" الواحدة و"الهويّة العربية" المشتركة!. 

فهاهي المنطقة العربية تعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس، وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.

هناك حاجةٌ ماسة لبناء مجتمعات عربية جديدة تقوم على الجمع بين الفهم السليم للأمّة العربية الواحدة القائمة على خصوصيات متنوعة، وبين الولاء للوطن الواحد القائم على أسس سليمة في الحكم والمواطنة...

.. وهناك حاجةٌ للاتفاق على "البوصلة العربية المشتركة"، كأساس لتحديد من هو "العدوّ"، ولإنقاذ الأمّة من حال الضياع في هذا الزمن الصهيوني الردئ!.

إنّه لواقع حال عربي لا يعبّر فقط عن أزمة فهم المصطلحات، إذ لو كان الأمر كذلك لأضحى الحل في طباعة قاموس جديد!. حقيقة المشكلة هي أنّ وراء كل مصطلح مشوَّه، أدواراً خارجية مشبوهة أو تجارب محلية سيئة، وبعض هذه التجارب السيئة مستمرٌّ في الحكم، والبعض الآخر في المعارضة! ومن هنا يمكن البدء في الإصلاح عبر تصحيح المفاهيم والاتفاق أولاً على "المشترك" لا على "القاسم"، ثمّ العمل السلمي المتواصل لتغيير الواقع العربي الذي تكثر فيه "الخنادق" وتقلّ فيه "الجسور"!.

وسوم: العدد 1011