أريحا: أوّلاً أم عاشراً؟
ذات يوم كانت أريحا صنو ثنائية «غزّة – أريحا أوّلاً»، التسمية الشائعة لاتفاق أيار (مايو) 1994، وما سينقلب إليه تعبيرات تصف اتفاقية أوسلو، واتفاق القاهرة، ومنعرجات ما سُمّي بـ«الحكم الذاتي الفلسطيني»؛ وشاءت أقدار الموقع الجغرافي، والصلات مع الأردن، وبعض المحمولات الرمزية التوراتية، أن تتضافر في قليل أو كثير كي تمنح المدينة سمة استقرار وسكينة، خادعة في الإجمال كما هي حال كلّ أرض فلسطينية تحت الاحتلال، أو فعلية نسبياً لاعتبارات أمنية واقتصادية وبروتوكولية توافقت السلطة الفلسطينية مع سلطات الإسرائيلية على ترسيخها في المدينة.
وذات يوم أيضاً، في ربيع 2006، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي هجوماً على سجن أريحا، واقتحمه بالدبابات والجرّافات، وهدم جدرانه وأسواره ومهاجعه، بهدف اعتقال الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وعدد من قيادات الجبهة، ولقد تقصد الإسرائيليون اعتماد ألوان من الإهانة إذلالية وذات طابع سينمائي مكشوف، لم يكن إخراج السجناء شبه عراة أمام عدسات التلفزة الإسرائيلية والفلسطينية والعالمية سوى المشهد العلني الذي انطوى على ألوان أخرى من التنكيل. يومها صرّح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأنّ هذه «جريمة لا يمكن أن تغتفر»، و«إهانة للفلسطينيين»، كما اشتكى من أنها «خرق فاضح للاتفاقات»؛ الأمر الذي لم يمنعه من التشديد على أنّ السلطة الفلسطينية سوف تواصل التمسك بالرعاية الدولية للاتفاقات الموقعة مع دولة الاحتلال!
وذات يوم، تصادف هذه المرّة مع الذكرى الخامسة لتوقيع اتفاقيات أوسلو، جرى إطلاق كازينو القمار في أريحا إياها، كي يختلط هدير الدبابات والبلدوزرات الإسرائيلية مع صخب آلات القمار، بما يشكّل الموسيقى الأفضل دغدغة لآذان الإسرائيليين المقترعين في انتخابات الكنيست يومذاك! في صياغة أخرى، بدا وكأنّ الكازينو الذي حمل اسم «واحة أريحا» هو أفضل ما يملك الفلسطينيون من واحات سلام شرق ـ أوسطي، وُعدوا بها، ثم صدّقوا أنها قادمة لا ريب فيها. وأن يختلف زيد مع عمرو في اعتبار افتتاح الكازينو وصمة عار أو مجرّد «بزنس» مثل سواه، أمرٌ لم يكن يبدّل الكثير من فحشاء المفارقة إياها: أنّ قطعة الـ«بلاك جاك» هي ميدالية السلام الوحيدة التي وضعها الإسرائيليون قريباً من صدورهم دونما إحساس بالعار والخسران والسخط التوراتي، وأنّ أزيز الـ«روليت» هو النشيد الوطني الوحيد الذي يُسمح للآخر بعزفه ولا يجد الإسرائيليون غضاضة في الإصغاء إليه، بل لعلهم يشنّفون الآذان أيضاً!
غير أنّ أيام أريحا الأخرى، التالية التي توجّب أن تتغير بأسرع من إيقاعات تعاقبها، لم تعد تُحسب قياساً على ما هو أوّل فقط، بل ما يرقى إلى معادلة الأوّل والثاني والثالث والعاشر؛ ليس لأنّ مخيم عقبة جبر المحاذي للمدينة هو الذي شهد أحد أعنف صدامات المقاومة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي منذ أوسلو ومهانة السجن وافتتاح واحة القمار، فحسب؛ بل كذلك، وجوهرياً ربما، لأنّ «كتائب أريحا»، الآخذة في التوسع بعد تشكّل ابتدائي جنيني، تتصادى بقوّة مع «عرين الأسود» في نابلس القديمة، وكتائب المقاومة في مخيمَيْ جنين وبلاطة والخليل وبيت لحم…
إلى هذا فإنّ تحوّل أريحا إلى مهد مضطرد للمقاومين يحشر سلطة عباس في زاوية ضيقة تتقاطع عندها حقيقة تركيز أجهزته الأمنية في المدينة (نحو 40% كما تقول المعطيات)، مقابل واقع السخط الجماهيري المتعاظم إزاء سلطة عاجزة أو مكتوفة الأيدي أو فاسدة أو هذه وسواها مجتمعة. المستوى الآخر، والأعمق مغزى ربما، هو أنّ الغالبية الساحقة من أفراد كتائب المقاومة هذه هم من فئات الشباب أوّلاً؛ وهم، ثانياً، في حال انعتاق متقدمة من اشتراطات هذا التنظيم أو ذاك الفصيل.
وليس عجباً أنّ بعض غلاة المتدينين من المستوطنين الإسرائيليين يستعيدون الأمثولة التوراتية عن يشوع بن نون أمام أسوار أريحا، فثمة اليوم ما يعكّر صفو الهدوء، ويشوّش حتى على دوران الروليت!
وسوم: العدد 1019