أضواء على كارثة الزلزال
صدق الثعالبي إذ يقول في كتابه «سحر البلاغة وسر البراعة»: «العزل طلاق الرجال، والمحنة صيْقلُ الأحوال»، فالمحن دائما تصقل أحوال الناس، بل وتصوراتهم كما تصقل السيوف. ساعات من الرعب قضيتها منذ سقط الإطار المثبت على الجدار فوق رأسي وأنا نائمة في الرابعة والنصف فجر يوم الكارثة، كانت كفيلة بأن تصقل نظرتي للحياة بأسرها.
في إسطنبول التي لم تكن من المدن التي قضمتها كارثة الزلزال، قضيت ساعات طوال مع ولدي في السيارة، شملت ساعات النوم أيضا، شعرت خلالها بالغربة والوحشة في الحياة، لا أثق في المقام بين أربعة جدران في أي مكان.
في ذلك الوقت، صعقتني الأفكار عن أولئك المنكوبين في المدن التركية والسورية على السواء، أولئك الذين عاينوا ذلك الرعب الجارف، تهدمت عليهم منازلهم، وفقدوا تحت الأنقاض ذويهم، يحصي بنو الأسرة الواحدة من فقدوا. هؤلاء الذين هرعوا إلى الشوارع بملابس النوم، حوصروا بين الركام، وافترشوا الأرض التي كساها الثلج، قبل أن يتم إنقاذهم وانتشالهم، عن أي صور لمآسيهم أتحدث، عن الأبوين اللذيْن فقدا كل أبنائهما وجلسا قرب جثامينهم صامتين، بعد أن ضاعت كل المفردات، أم عن ذلك الذي يلقّن طفله الشهادة وهو تحت الأنقاض، لا يستطيع له شيئا، أم عن ذلك الشاب السوري الذي فقد من أسرته 12 فردا وهو يقول «انكسر ظهري»، المشاهد أكثر من أن تحصى.
في أقل من دقيقة تتوحش الحياة بتلك الطريقة، لا بيوت ولا أموال ولا أقلام أغنت عني من الفزع شيئا وأنا الآمنة مقارنة بهؤلاء المنكوبين، تلك هي الحياة التي نتصارع ونعادي ونخاصم عليها. رأيت كم نحن ضعاف أمام الطبيعة، رأيت حجمنا الطبيعي كبشر يتباهون بقوتهم وسطوتهم ثم تكسرهم هزات أرضية، لا حصون مانعة، ولا أسوار حاجزة، أدركت معنى حيازة الدنيا بحذافيرها إذا ما بات المرء آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه. خطرت على فكري مصائب قومنا الذين وقعوا ضحايا الزلزال المدمر، موتا، أو جرحا، أو جوعا وبردا، أو فقدا للأحبة، فقلت كم من إنسان يقضي نحبه كل يوم جراء البرد والعيش في الخيام، أو يتهدم عليه بيته الآيل للسقوط، لأنه لا يجد مأوى غيره، أو يموت من نقص العلاج والغذاء، أو من آلات الدمار التي تعبث بالبشر، أكان علينا أن نرى كارثة جامعة تحدث لكي ندرك معاناة الإنسان ونشعر بمأساته! وإن كان ما سبق هو بعض بوْحي العالق على شفير فؤادي، الذي أعلم أنه ربما لا يفيد القارئ شيئا، إلا أنني أود تسليط الضوء على تداعيات الأزمة وما كشفت عنه.
أستطيع القول بيقين، إن هذه الكارثة كشفت عن بقايا إنسانيتنا التي تبدد كثير من ملامحها في خضم الصراعات ومقاصل السياسة التي لا ترحم، أظهرت الخير في شعوب أمتنا. فلئن كان الدعم الرسمي الذي قدمته الحكومات العربية لم يكن على مستوى الحدث، لا من جهة الكم ولا الكيف ولا سرعة التحرك، إلا ما كان من دول تعد على أصابع اليد الواحدة، إلا أن الشعوب أظهرت تفاعلا عظيما مع المنكوبين في سوريا وتركيا، وتناست تلك الشعوب الخلافات السياسية وتجاوزتها، بدافع الدين والعروبة والإنسانية، لتحفر أعمالها في السجل التاريخي لهذه الأزمة، التي لم تشهد الأمة مثلها منذ أمد بعيد. هبة الشعوب العربية لدعم إخوانهم في سوريا وتركيا غير مسبوقة، انطلقت الدعوات وصلاة الغائب في ربوع الأمة، تعبيرا عن مفهوم الجسد الواحد، وزلزل الخطباء والأئمة منابرهم بالدعوة إلى إنقاذ المنكوبين. حملات للتبرع قامت بها الجماهير في معظم الدول العربية، شعوب دول الخليج، والشمال الافريقي، ودول إسلامية آسيوية، وحتى فلسطين التي تئن تحت وطأة الاحتلال، كانت مساجدها تجمع التبرعات دعما لضحايا الزلزال في سوريا وتركيا، وفي الأردن أعلنت الكنائس الكاثوليكية تخصيص تبرعات قداسات الأحد لمساعدة المتضررين في البلدين. تلك هي قوة الشعوب التي تتحرك في الأزمات بفاعلية وتدفع بشكل ما حكوماتها إلى التعاطي مع الأزمة، وإلا أوقعت نفسها في الحرج.
إنها المنح التي تأتي مع المحن، وكما قال أبو إسحاق القيرواني في كتابه «زهر الآداب وثمر الألباب»: «الكريم لا يزيد مع المحنة إلا كرما»، ففي مقابل ما ظهر من عزوف بعض أصحاب الأموال الذين بخلوا وضنوا حين استنفروا لدعم إخوانهم، برز كرماء النفس الذين بذلوا، وفتحوا بيوتهم للمنكوبين، وأقبلوا على بذل المساعدات وفق طاقاتهم وإمكاناتهم. ولعل من مظاهر بدُوّ المنح من خلال هذه المحنة، إعادة تسليط الضوء على أوضاع الأشقاء السوريين خاصة في إدلب، الذين نسيهم العالم في ظل الأزمة السورية التي طال أمدها، فها هي قد عادت إلى الواجهة من جديد تلك المدن السورية المنسية، التي لم يكن يصلها سوى الصواريخ الروسية والإيرانية حليفة النظام، التي دمرت البيوت وخربت المنشآت وصيّرت السوريين غرباء مشردين في وطنهم، يموت منهم من يموت في صمت.
سوف يسجل التاريخ كذلك، موقف بعض الدول الغربية في بذل المساعدات إلى تركيا وسوريا، اللتين شهدتا الكارثة، لكنه في المقابل سيسجل موقف الدول الغربية التي لم تتحرك إلا بعد أيام من الكارثة على استحياء، وبشكل باهت لا يتسق مع شعاراتها البراقة، ولا يتوازى مع إمكاناتها الضخمة، ما حدا بالكاتب البريطاني دافيد هيرست رئيس تحرير موقع «ميدل إيست آي»، إلى انتقاد الموقف الأوروبي، قائلا إن زلزال تركيا وسوريا كشف عن وجه دول أوروبا، الذي لا يعرف الرحمة، وكيف أن أوروبا التي تنفق المليارات منذ عام على الحرب في أوكرانيا تجاهلت الزلزال المدمر. الأمم المتحدة بدورها كان أداؤها باهتا، ويكفي أن نعلم أن أول قافلة مساعدات من الأمم المتحدة دخلت من معبر باب الهوى الحدودي الوحيد بين تركيا وسوريا، كانت بعد ثلاثة أيام من الزلزال، وتتكون من ست شاحنات فقط.
أظهرت الكارثة الوجه القبيح لليمين الأوروبي الذي لم تتورع عناصره عن الشماتة بتركيا، بعد الرسم الساخر الذي نشرته صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية، وبلغ عدد المشاركين في أحد الوسوم الشامتة أكثر من سبعين ألف تغريدة، منها ما يطالب بسحب المساعدات الإنسانية وحرمان المنكوبين من الإغاثة، ردا على رفض تركيا لانضمام السويد للناتو، بعد موقف أنقرة من حادثة حرق المصحف بالعاصمة السويدية. وكما يقول المتنبي:
بِذا قَضَتِ الأَيّامُ ما بَينَ أَهلِها… مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ
كانت لبشار الأسد فوائد من هذه الكارثة التي لحقت بالشعب السوري، فهو يستثمر الأزمة في الخروج من عزلته، والفوز بالتطبيع في محيطه العربي والإقليمي، وقد تلقى منذ اندلاع الكارثة العديد من اتصالات قادة وزعماء الدول العربية، الذين أعربوا له عن تضامنهم مع الشعب السوري، رغم أنه أكثر من أعمل المبضع في الجسد السوري، فحظي بلقطة تطبيع واضحة، تضاف إلى الأصوات العربية التي تعالت للمطالبة بدمج نظام الأسد في البيت العربي من جديد. يسعى الأسد لاستثمار الأزمة في ابتزاز المجتمع الدولي عن طريق المساعدات، التي وصل معظمها إلى الأماكن الخاضعة لسيطرة النظام، رغم أن أكثر المدن تضررا هي الخارجة عن سيطرة نظام بشار الأسد، كما أن هناك مخاوف مبررة لتعزيز الوجود الإيراني في ظل هذه الأزمة عن طريق الميليشيات التي تقاتل بالوكالة عن إيران، ومدها والنظام السوري بالأسلحة للقضاء على المعارضة. أعتقد أن هذا الزلزال سيكون حدثا فارقا بين ما قبل وما بعد، سيكون له تأثيره البالغ على المسار السياسي داخل تركيا التي تستعد لاستحقاقات انتخابية شرسة، واستغلال قوي للقوى السياسية، سواء الحكومة أو المعارضة للأزمة. وكذلك يتوقع أن يكون للأزمة أثرها على الأزمة السورية، التي ربما يتم التعجيل إزاءها بتسويات سياسية، أغلب الظن أنها ستكون لصالح بشار الأسد، ويتم إسدال الستار على كل جرائمه تجاه الشعب السوري، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1019