قيس سعيد والمسارات الغامضة
يتلقى الرئيس التونسي قيس سعيد الصفعة تلو الأخرى من الشعب التونسي من دون أن يتعظ، أو يطور مساراته -التي أقل ما يمكن أن توصف به أنها غامضة- لتكون مقبولة شعبيا، فيقع دوما في نفس الشرك الذي نصبه للآخرين، بعدما أصمّ أذنيه عن جميع الناصحين الذين لم يألوا جهدا في نصحه بكافة الطرق بضرورة التراجع عن مسار 25 يوليو/ تموز الغامض الذي فرضه على الشعب التونسي، من دون هدف منطقي يستحق اللهاث خلفه.
لكنه أصرّ على الهرولة إلى الأمام، واضعا نصب عينيه تجارب آخرين نجحت مثل الهرولة في إبقائهم في السلطة، متناسيا اختلاف تونس عن غيرها في أن لديها قضاء لا يزال خارج التدجين ولو نسبيا، وجيشا لم ينغمس بعد في الحياة السياسية حتى الثمالة، وأن الشركاء أو الرعاة الغربيين مشغولون الآن بإشعال أو إطفاء عشرات من النيران المشتعلة الأولى كثيرا بالاهتمام.
ولا يدري أحد ما العائد على تونس، أو شعبها الذي يعاني الأمرين اقتصاديا، أو على التجربة الديمقراطية، ولا على قيس سعيد نفسه، من تلك المسارات والحروب “الدون كيوشتية” التي يخوضها، في حين كان الأولى به الاهتمام بتحسين الوضع الاقتصادي للبلاد بدلا من تنظيم انتخابات وراء انتخابات وراء انتخابات تقاطعها الأغلبية الكاسحة التي لا تجد جدوى لها، والسعي لعسكرة البلاد واعتقال الحقوقيين والنشطاء والصحفيين والبرلمانيين وقادة الأحزاب المعارضة انتهاء بطرد الأمين العام لاتحاد النقابات الأوربية.
ردود سعيد
لم يتعظ بأن نسبة المشاركين في الاستفتاء الدستوري لم تتجاوز11% من الناخبين وهي أقلّ نسبة مشاركة في كل تاريخ تونس، ولم يتعظ بنزول عشرات الآلاف في عدة تظاهرات متتالية يطالبونه بالتوقف الفوري عن كل الإجراءات التي اتخذها منذ أن جاء للسلطة، ولم يتعظ بفشل ما أسماه الاستشارة الإليكترونية وما نالته من سخرية وانتقاد واسع في البلاد، ولم يتعظ بمهزلة الحوار الوطني التي أقصى منها الجميع وراح يتحاور مع أنصاره، فراح يمضي قدما إلى إجراء انتخابات برلمانية كانت نتائجها هي الأخرى مقروءة منذ البداية، وحصلت المشاركة فيها على نفس النسبة التي حصل عليها دستوره.
ولعل المدهش حقا هو تعليق الرئيس على نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية في جولتيها، حيث لم يجد ردا على نتائج الجولة الأولى التي جرت في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي والتي شارك فيها التونسيون بنسبة 11%، سوى قوله “إن نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدورة الأولى بل بالدورتين” وإن “المشككين يشبهون من يعلنون نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول”.
وحينما أعلنت نتائج دورة الإعادة في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي وكانت بنفس نسبة المشاركة في الدور الأول راح يردد مبررا عجيبا لا نعرف كيف اقتطعه ويحاول جعله منطقيا وهو أن نحو 90% لم يشاركوا في التصويت لأن البرلمان لم يعد يعني شيئًا بالنسبة لهم، وعلى طريقة مات المولود وماتت الأم ولكن نجحت العملية علق قائلا “إن الأهم أننا حافظنا على مواعيد الانتخابات”.
وبالقطع إزاء مثل هذه التبريرات قد يتساءل أحد: بما أن البرلمان القديم فاشل، والبرلمان الجديد فاشل، والدستور القديم فاشل، والدستور الجديد فاشل، والحكومة القديمة فاشلة، والحكومة الجديدة فاشلة، لماذا لا نجرب تغيير قائد السيارة نفسها لعل تونس تصل إلى وجهتها بسلام؟
وحصر سعيد الوطن في ذاته وصار كل من يخالف توجهاته عدوا لهذا الوطن.
النواب الجدد
مشهد الانتخابات التشريعية الأخيرة يشي بالكثير، فبغض النظر عما يردده كثير من المراقبين التونسيين عن أن المرشحين في الانتخابات البرلمانية هم في الغالب شخصيات غير معروفة، وليس لهم سوابق في العمل النيابي حتى لو في المجالس القروية سوى عدد قليل منهم ينتمي لأسر الحظوة لنظام بن على، فإنهم أيضا يتحدثون بنغمة واحدة تشبه خطاب الرئيس عن المؤامرة وقوى الشر والمخربين والإرهابيين ونحو ذلك، وبرامجهم لا تعدو برامج رئيس حي أو شيخ حارة، وليست برامج نواب برلمانيين لهم خطط قومية.
ومن الملفت للنظر أن هناك نوابا في البرلمان فازوا بعدد أصوات يزيد قليلا عن ألف صوت، وهو رقم ضئيل للغاية لا يعبر حتى عن أصوات حارة من الحارات، في حين أن أعلى الأصوات كانت متدنية أيضا وزادات قليلا عن ثمانية آلاف صوت.
كما أصابت الرئيس قيس سعيد أيضا لامة إضافية من تلك النتائج عبر رسوب معظم المرتبطين به من التيارات الناصرية، ولا سيما أحمد شفتر أحد أبرز الداعمين له والمبررين لكل خطواته أمام منافسه مسعود قريرة، رغم كل ما كان يحظى به من دعم إعلامي داخلي وخارجي، إذ حصل على ما يزيد قليلا على ألفي صوت فقط.
ولكي تكتمل دائرة الملهاة في هذه الانتخابات التي قاطعتها جميع الأحزاب الشعبية في تونس بجميع توجهاتها، تبيّن أحد المنافسين في جدول الإعادة لم يحصل على أي صوت، أي أنه لم يحصل حتى على صوته، وفاز مرشحون بالتزكية في بعض الدوائر لعدم وجود منافس.
ورغم تلك النسب المتدنية في المشاركة فإن مراقبين محليين شككوا في حدوث تزوير على نطاق واسع في النتائج، وإن كنت أنا شخصيا أعتقد أن من يستطيعون تزوير الانتخابات هناك كان بإمكانهم أيضا تزوير نسب المشاركة، كما يحدث في كل الانتخابات في البلدان العربية، وتجنيب جبين الرئيس هذه الوصمة، إلا إذا كان في جراب الحاوي ما لم نره بعد.
لو كنت مكان الرئيس قيس سعيد لتركت التونسيين يكتوون بنار قلة وعيهم لتحرقهم الأخطار التي لا أراها إلا أنا، وحرمتهم من جنتي، ورحلت!!
وسوم: العدد 1020