السعودية بين الوهابية والتنوير

كما أن ناقل الكفر ليس بكافر، فناقل المصطلحات لا يعني إقراره بها، وانطلاقا من ذلك استخدمت في هذه السطور مصطلح الوهابية، رغم أنني لا أعترف به، فليس هناك من دين يسمى بالدين الوهابي، وليس محمد بن عبد الوهاب سوى داعية من دعاة الإسلام، لم يأت بشرائع جديدة، وإنما ركز جهوده في الدعوة إلى التوحيد الذي هو أصل رسالة الإسلام، وله ما له، وعليه ما عليه، شأنه شأن كل البشر.

لكنني استدعيت هذا المصطلح، بهدف التعليق على حديث من أتى به في معرض ذم الدعوة في السعودية، ومدَح استضافتها ورعايتها أهل الفن والغناء والرقص، وسماه بالتنوير والتجديد. وهذا ما جادت به قريحة الكاتب المصري الذي لا يكف عن إثارة الجدل إبراهيم عيسى، الذي هشّ وبشّ لهذا التغير الطارئ على المسيرة الثقافية للمملكة. يقول الكاتب في إحدى تغريداته التي شاع ذكرها مؤخرا: «تَواصُل تكريم المملكة السعودية لرموز الفن المصري حدث رائع وراق ونبيل، يستحق التحية والشكر والتقدير. على مدى قرابة أربعين عاما كانت الوهابية تهدف إلى تحريم الفن وتسعى لاعتزال الفنانات المصريات وارتداء الحجاب والنقاب، وتسمية هؤلاء بالتائبات، شكرا للسعودية هذا التجديد والتنوير».

ذكرتني هذه العبارة، بمن يمتدح رجلا وهو يسب أصله وأهله وعائلته، ففي الحقيقة لم تقم السعودية كدولة إلا على هذه الدعوة التي يسميها إبراهيم عيسى بالوهابية، ونسميها نحن بالدعوة الإسلامية التي جددها ابن عبد الوهاب في ربوع هذه المنطقة، وانطلق منها أسلاف السعوديين ليقيموا دولة ظلت إلى عهد قريب ترفرف بجناحيها السياسي والدعوي دون تعثّر بصرف النظر عن تقييم أداء هذه الثنائية، وهكذا يقع إبراهيم عيسى في جذور السعوديين في قالب مدح واقعهم. في عهد محمد بن عبد الوهاب لم يكن هناك فنٌّ على هذه الشاكلة حتى يحرمه ويحاربه، وما تناول علماء المملكة الفن وأهله بعدها بفتاواهم، إلا انطلاقا من قواعد فقهية معروفة لدى علماء المذاهب منذ أمد بعيد، مستمدة من الكتاب والسنة، ولم يخترعها محمد بن عبد الوهاب، ولم تكن السعودية – حتى مع ظهور الفن فيها من تمثيل وغناء ـ تشهد أرضها شاكلة الفن المصري بكل ما حواه من قيم مخالفة للهوية الثقافية للمجتمع، التي تعتمد على التدين والأعراف المحافظة.

وليس هناك ما يسمى بالفقه السعودي بالأساس، فمعظم علماء السعودية التابعين للهيئات الرسمية، يسيرون على المذهب الحنبلي، الذي يعد أحد أكبر المذاهب البارزة التي نالت قبول المسلمين، وهذا المذهب بالمناسبة، بريء مما نسب إليه من التشدد، فهناك العديد من اجتهادات المذهب تتجه إلى التيسير بخلاف ما يشاع عنه. وبعض علماء السعودية لا يتقيدون بالمذهب الحنبلي في فتاواهم، بل أحيانا يخالفون المذهب وفق ترجيحاتهم الفقهية المبنية على النظر في الأدلة. إذن، تناول هذا الكاتب للجذور العلمية الدعوية في السعودية بهذا الشكل، لا يمكن القول إلا أنه خصومة بينه وبين هيمنة الشريعة الإٍسلامية على أي نمط من أنماط الحياة. وفي خضم موجة التزلف التي تتبدى من المنابر الإعلامية المصرية إلى المملكة السعودية، التي باتت ليست بحاجة ماسة إلى هذا النظام، لم يحد إبراهيم عيسى عن المسار، وأشاد بهذه الطفرة التي حدثت في مجال الترفيه في السعودية، فسماها بالتجديد والتنوير، فعن أي تجديد وتنوير يتحدث؟

لماذا يهلل هو وغيره من أدعياء التنوير لهذا التحول الثقافي الاجتماعي في المملكة؟ وما علاقة التجديد والتنوير بمجالات ترفيهية لا تعدو أن تكون كذلك؟ ما الذي عاد على تلك البلاد بهذا الانفتاح غير المسبوق على موارد التسلية والترفيه؟ لماذا يعتبرونه فتحا جديدا تشهده المملكة؟ لا أحسب أن أحدا من المسلمين والعرب يكره الخير للمملكة وشعبها، وكل نبأ ينشر عن تصاعد الاقتصاد السعودي، وجودة التعليم، والقوة العسكرية، وبزوغ شخصيات علمية متميزة ونحو ذلك، نسعد له كما نفعل مع كل بلادنا التي نتوق إلى أن تتبوأ كلها مواقع السيادة والريادة في العالم.

وجميلٌ أن تتحول السعودية من الاعتمادية على النفط، إلى التوغل في ملاعب التجارة والسياحة والاستثمار. لكنني أتساءل هنا عن جدوى الاستغراق في مجال الترفيه إلى الحد الذي يغير ملامح وجه الحياة الاجتماعية والثقافية في المملكة، وعن ابتهاج المتغربين بذلك.

كلماتي هذه لن تروق لمن ينظرون إليها على أنها هجوم ديني على الفن وأهله، لكن سيهضمها من يتفكر قليلا في مدى جدوى هذا التحوّل وقيمته وعوائده على المجتمع السعودي، حينها سيعلم أن حديثي ليس حديثا داعشيا وهابيا متطرفا كما يقال، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 1035