لماذا تخشى إسرائيل انهيار «السلطة الفلسطينية»؟
في ختام اجتماع مجلس الوزراء الصهيوني ـ الفاشي يوم الأحد الماضي وبعد أسبوع شهد أخطر حملة خاضها جيش العدوان الإسرائيلي في الضفة الغربية منذ «عملية الدرع الواقي» التي شنّها آرييل شارون في عام 2002، وكانت جنين، ولاسيما مخيمها، أولى ضحاياها آنذاك كما اليوم، في ختام ذلك الاجتماع إذاً، تلا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بياناً ملفتاً جاء فيه: «سوف تعمل إسرائيل على الحؤول دون انهيار السلطة الفلسطينية، مع مطالبتها بإيقاف نشاطها المناهض لإسرائيل في المحافل الدولية القانونية والدبلوماسية، والتوقّف عن التحريض في وسائل إعلامها ونظامها التربوي، وعن دفع التعويضات لعائلات الإرهابيين والقتلة، وعن البناء غير الشرعي في المنطقة ج».
وبالرغم من أننا اعتدنا على الصفاقة الصهيونية وقد بلغت ذروتها مع نتنياهو، فإنها مذهلة حقاً في البيان المذكور إذ وصلت إلى حد لوم «السلطة» على ما أسمته «البناء غير الشرعي في المنطقة ج» أي في المنطقة التي تبلغ حوالي ستين بالمئة من أراضي الضفة الغربية المحتلة في عام 1967، والتي رأت إسرائيل أن تضمّها فعلياً إلى المساحة التي نصبت عليها دولتها منذ قيامها في عام 1948، فضلاً عن القدس العربية التي ضمّتها رسمياً بعد احتلالها بأيام. ومن المعروف أن الدولة الصهيونية بنت في «المنطقة ج» ما يزيد عن 130 مستعمرة يسكنها ما يناهز نصف المليون من المستوطنين اليهود، علاوة على مستعمرات منطقة القدس والمستوطنين اليهود فيها الذين يقترب عددهم من ربع المليون، وكلها خروقات فادحة للقانون الدولي.
والحال أن حكومة نتنياهو الجديدة، التي تضمّ أناساً لا تتردد بعض الأوساط الصهيونية الليبرالية في نعتهم بالنازيين الجدد، أعلنت عن نيّتها تصعيد النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، وقد أوكلت إلى وزير ماليتها الفاشي بتسلائيل سموتريتش، وهو من دعاة «إسرائيل الكبرى» رئاسة هيئة تخطيط المستوطنات. فأن تدعو الحكومة الصهيونية ـ الفاشية «السلطة» في مثل هذه الظروف إلى التوقف عن «البناء غير الشرعي في المنطقة ج» إنما هو حقاً قمة الوقاحة!
بيد أن المهم في البيان الذي تلاه نتنياهو ليس صفاقته بالرغم من بلوغها ذروة جديدة كما بيّنّا، إنما هو حرصه المعلن على «الحؤول دون انهيار السلطة الفلسطينية». والحقيقة أن ما رافق الإعلان عن ذاك الحرص من «مطالبة» وجّهتها الحكومة الصهيونية ـ الفاشية إلى «السلطة» غير العتيدة، ليس سوى ترضية للوزيرين الفاشيين الأكثر تشدّداً في الحكومة، ألا وهما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي صوّت ضد البيان (في مقابل ثمانية وزراء أيّدوه) وسموتريتش الذي اكتفى بالامتناع عن التصويت تعبيراً عن عدم رضاه.
فيا تُرى، لماذا الإعلان عن حرص الحكومة على استمرار «السلطة» في دورها كسلطة بالوكالة عن الاحتلال وبالتعاون معه في هذا الوقت بالذات، إثر الحملة الشرسة التي شنّتها على جنين في إطار سعيها وراء محاولة استئصال بؤر المقاومة المسلّحة التي نشأت في الآونة الأخيرة في جنين ونابلس وسواها من بلدات الضفة؟ وكيف نفسّر معارضة الوزيرين الفاشيين في هذا الإطار؟ فلنبدأ بهذين الأخيرين: إنهما نصيران معلنان لضمّ كافة الأراضي المحتلة سنة 1967 إلى الدولة الصهيونية، ولذا لا يحبّذان وجود «سلطة» فلسطينية عليها، ولو كانت متعاونة مع الاحتلال. بيد أن المعضلة التي واجهتها الصهيونية منذ عام 1967 لا تزال قائمة، وهي أنها تحبّذ شمل كافة الأراضي الفلسطينية بين البحر والنهر في دولتها، لكنّها لا تريد البتّة أن تضمّ سكان الضفة الفلسطينيين الذين يزيد عددهم عن المليونين (دون أخذ القدس في الحسبان).
وقد تصدّى لهذه المعضلة مبكّراً إثر الاحتلال في عام 1967 «مشروع آلون» (باسم الوزير الذي صاغه آنذاك، وهو إيغال آلون) الذي دعا إلى استحواذ الدولة الصهيونية على أراضي الضفة الغربية باستثناء تلك المأهولة بكثافة سكانية فلسطينية، على أن تكلَّف بإدارة هذه الأخيرة سلطة عربية، كانت هي المملكة الهاشمية في المشروع الأصلي، ثم باتت منظمة التحرير الفلسطينية بعد تخلّي عمّان عن الضفة في عام 1988 وإثر قبول ياسر عرفات بالشروط التي أمليت عليه في أوسلو سنة 1993. وإذ فشل ذلك المخطط، لاسيما بعد استفاقة أبو عمّار من الأوهام التي أحاقت به منذ محادثات أوسلو والتي لعب محمود عبّاس الدور الرئيسي في إقناعه بها، باتت الدولة الصهيونية بلا مشروع بديل سوى استمرارها في تطوير النشاط الاستعماري الاستيطاني في الضفة المحتلة.
أما البديل الجذري الذي يدعو إليه الوزيران الفاشيان وما يمثلان، وهو إحداث «نكبة» جديدة تقوم على إرغام أهل الضفة على مغادرتها، فليس في متناول الدولة الصهيونية في الظروف الراهنة نظراً لما سوف ينطوي الأمر عليه لا مُحال من مفعول بالغ الخطورة على المنطقة العربية وعلى علاقة إسرائيل بعرّابها الأمريكي وبداعميها الأوروبيين، ناهيك من سائر بلدان العالم. ولا بدّ بالتالي للدولة الصهيونية من أن تواصل قضمها التدريجي للضفة، بينما تشدّ الخناق على المناطق المأهولة متوخّية تبدّل المعطيات الديموغرافية في الأمد المتوسط، نتيجة نزيف فلسطيني مستمرّ يقابله تدفّق يهودي استيطاني غير منقطع.
وهذا ما يتطلّب بقاء «سلطة» تُعاون الاحتلال ومخابراته في السيطرة على أهل الضفة، لاسيما أن البديل، لو انهارت «السلطة» كما يخشاه معظم الصهاينة، إنما هو حالة من العصيان الشعبي على شاكلة الانتفاضة الأولى لدى ذروتها في عام 1988، مصحوباً بنشاط مكثّف لمقاومة مسلّحة تعمل «تحت الأرض» على غرار ما شهدته شتّى البلدان المحتلة في التاريخ الحديث. هذا الاحتمال هو كابوسٌ للصهاينة، لذا نراهم يحرصون على «الحؤول دون انهيار السلطة الفلسطينية» بالرغم من كافة مضايقاتهم لها التي تبغي إبقاءها هزيلة تحت سيطرتهم المُحكمة.
وسوم: العدد 1040