الخلافة الراشدة أو الحكم والحاكم الرشيد؟؟
في تاريخ المصطلحات كثيرا ما يحصل الاضطراب ويروج.
عنوان " الخلافة الراشدة" الذي أصبح في هذا العصر مطلبا أكثر رواجا، يحارب عليه المحاربون، ويناجز عليه المناجزون؛ يطلبه قوم يتطلعون إلى العدل وإلى الحرية، وإلى المشاركة في قرارهم، وفي رسم مستقبلهم، و في استيفاء حقوقهم الإنسانية منها المعنوية والمادية.. ويتخوف منه آخرون ولتخوفهم أسبا، منها ما هو نوع من الإباء النفسي، أو الموقف التاريخي المدمجة أطرافه، ومنها ما هو موضوعي حقيقي. حين يتساءل أحدهم: أيّ شكل من أشكال الحكم تريدون. يوجه خطابه بالطبع إلينا نحن المسلمين، يوجه السؤال علميا بغير ريبة، ويقول: أي شكل من أشكال الشورى تريدون، وفقهاؤكم الأخيار الجادون، ما زالوا مختلفين مثلا، في الشورى، وأهلها، وهل هي ملزمة أو معلمة. وفي زمن حكم الخليفة المختار، أتختارونه مدى الحياة، أو…
ومنذ عقود وأنا أقرأ عن "الخلافة الراشدة" كعنوان لنظام سياسي أسسه الرسول الكريم. ونعم ما أسس الرسول الكريم صلى الله وسلم عليه.
أعلم أن أحاديث عديدة، يختلف علماء الحديث في توثيقها، تحدثت عن عنوان "الخلافة الراشدة" المأمولة، على نهج النبوة الأولى، ولكنني أعلم أيضا أن علماء الحديث، مع المؤسسين لبقية العلوم، ومنهم علماء اللغة والنحو، قد توقفوا في قبول الحديث الشريف، كمرجع لفظي لغوي ونحوي، لاعتمادهم جواز رواية الحديث بالمعنى، وأن كثيرا من رواة الحديث كانوا من الأعاجم -ولا يضيرهم ذلك-وكانوا يروون الأحاديث بما قرب لألسنتهم من ألفاظ. وإذا تداول عالم لغة أو نحو، صيغة حديث، وهم كل استشهادهم، بكلام العرب وبنصوص الكتاب العزيز، فإنهم يفعلون ذلك كنوع من الترف العلمي، وليس كشاهد من شواهد التأسيس.
وفي الرواية أيضا أن المسلمين بعدما توفي رسول الله صلى الله عليه، وسلم، واختاروا أبا بكر، من بعده، حاروا فيما يلقبونه، ولو كان مصطلح "الخليفة" منصوصا عليه، وحاضرا، فلمَ الحيرة؟؟
حاروا واختلفوا، ثم اتفقوا اجتهادا منهم، أن يلقبوه "خليفة" رسول الله، بمعنى أنه الذي يخلفه على أمر المسلمين، من بعده.
ثم واجهوا المشكلة نفسها بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، وقيام عمر..
وتساءلوا: وماذا يلقبونه؟؟
وقالوا: قلنا في أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله وسلم على رسوله، فهل نقول في عمر: خليفة خليفة رسول الله!! ووجدوا أنفسهم أمام تداولية تاريخية ستطول، فنحوا إلى تلقيب عمر رضي الله عنه "أمير المؤمنين" ثم اختلطت المصطلحات، وأحب بعض الولاة أن يتقدس بالعناوين، ولاسيما بعد أن اعتز الناس بمثل الشعرة والبردة والقضيب..
المؤدى الذي أريد أن أخلص إليه هو أن مصطلح "الخلافة" أو مصطلح "الخلافة الراشدة" هو عنوان توافقي وضعي متصور بين المسلمين، عنوان فيه من التوق إلى العدل، والحلم به أكثر.
وحين نتحدث عن نظام سياسي، أو عن "بنية دولة" في عهد الخلفاء الراشدين ومن تلاهم، فإننا سنواجه تاريخيا وعلميا وموضوعيا ثغرات كثيرة، يحتاج المسلمون في هذه العصور أن يجيبوا عليها، بل أن يتفقوا على الجواب عليها. فما أكثر ما يجيب أحدهم على المسألة، ويظن أنه قد طبق المفصل، ومخالفوه فيه، أوضح حجة، وأقوم دليلا وبيانا!!
قرر القرآن الكريم بنصوصه المحكمة أسس الحكم الرشيد.
وفي حالة أولية لبناء الدولة، كان الاعتماد على رشد الانسان.
الاعتماد على رشد الحاكم. رشد ابي بكر وعمر وعثمان وعلي..رضي الله عنهم أجمعين. رشد هؤلاء هو الذي جعل الخلافة في عصرهم راشدة!!
ولذلك ظل المؤرخون المسلمون يصفون بالرشد بعض من توفرت فيهم شروط الرشد، ومنهم عمر ابن عبد العزيز…
حين نتحدث عن الدولة الراشدة، سنفقد في تاريخ الدولة الاسلامية والراشدة منها بشكل خاص، الكثير من مؤسسات الدولة، ومهاماتها التي ألحقت بها فيما بعد..
يستسهل الكتاب من مثل الجويني والماوردي الاجابة النظرية عن التساؤلات..
أتساءل أنا أيضا:ما معنى أن الدواوين لم تدون إلا في عهد عمر رضي الله عن عمر، ونمر بها ونعتبرها من أياديه؟؟ دوّن الدواوين، وفرض العطاء!!
معناه أن الدولة حتى ذلك الحين كانت، بلا جيش نظامي، تعتمد على المتطوعة، ويُستنفر الناس فينفرون، خفافا وثقالا.. وتختلط الأمور على بعض الناس حتى اليوم!!
ما معنى أننا انتظرنا حتى عهد عبد الملك حتى سككنا العملة الخاصة بدولتنا..؟؟
كيف هي الشورى الاسلامية؟؟ ومن هم أهلها؟؟ وكيف تمارس..؟؟
ومصطلح أهل "الحل والعقد" أو أهل " العقد والحل" من هم؟؟ رأيناهم كثيرا في التاريخ يعقدون، حتى عقدوا لخليفة من بني العباس صبي، كان سيفه أطول من نياطه.
من يحفظ لي من تاريخ المسلمين، كم مرة مارس أهلُ الحلِّ الحلَّ؟؟ ونحن في هذا العصر ما زلنا نرى أهل العقد والحل، يعقدون ولا يحلون، لو مجلس الشعب في سورية حل لبشار الأسد لكفى سورية كل هذه العثرات!!
وكان من جميل ما قرأت ما ألفه الشيخ عبد الحي الكتاني " رحمه الله تعالى، "نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية"
كتاب جميل. في استنبات النخلة من النواة وأنت تنظر. يقول الأصوليون: لا يبنى القوي على ضعيف. ونقول نحن في الشام فلان "يجعل من الحبة قبة، ثم يحول القبة إلى مزار"
ثلاثة من الخلفاء الراشدين الذين نعتز بهم استشهدوا غيلة وقتلا!!
ولا يسأل أحدنا:أين كانت المؤسسة الأمنية في حماية الخلفاء، وسننتظر حتى عهد معاوية رضي الله عنه، حتى تكون المقصورة، لحماية الخليفة وقت الصلاة!! ولعل بعضهم لا يعتبر المقصورة من الرشد!!
تداول المسلمون من ثقافات غيرهم مقولة "العدل أساس الملك"
مقولة لها شاهدها الواضح الناطق في سورة الحديد من القرآن الكريم.
والمطلوب من فقهاء الاسلام "الفقه الأكبر" -بمصطلح العصر أقصد- أن يضعوا تصورا محكما لبناء حكم راشد أو رشيد، وأن يعملوا بعد تحديد ركائزه وأسسه وأركانه على الاتفاق عليه، وذلك أولى من التعلق بأشباح التاريخ.
والمهم من كل ذلك أن نعلّم أن الذين كانوا في تاريخنا هم حكام أو سلاطين أو أمراء أو خلفاء راشدون أو مصلحون.. أو عادلون..وكلٌ أصاب من الخير أو أخيه بقدره، وكلٌّ عمل على شاكلته..
وكان الرشد في الإنسان أكثر منه في الأنظمة والأركان..
فأي نظام للحكم نريد، ومن الساس إلى الراس!!
ذلك هو السؤال، وجوابه هو الجواب، والتوافق عليه هو المخرج، وما عداه فهي حكايات ما قبل النوم.
وسوم: العدد 1040