استراتيجية الصراع في فلسطين
دخل الوضع الفلسطيني في أسوأ حالاته بعد أن وقع اتفاق أوسلو وأعلن عن انتهاء المقاومة المسلحة، وأصبح الهدف (أو المشروع الوطني الفلسطيني) هو بناء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة (حدود ما قبل الخامس من حزيران/ يونيو 1967). وقد تدهور الوضع أكثر عندما تبين أن الاستراتيحية الصهيونية مجمعة على مواصلة الاستيطان وتهويد القدس، وقد تضاعفا عشرات المرات عما كانا عليه قبل اتفاق أوسلو، مما يعني أن حلّ الدولتين (التصفوي للقضية الفلسطينية، وثوابتها الأساسية المقررة في منطلقات فتح والفصائل، في ميثاقي م.ت.ف 1964 و1968)، أصبح وهماً، وتأكد أنه وهْم أصلاً.
وهذا الأمر يفسّر الفشل الذريع لمحادثات كامب ديفيد2، ومن ثم اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وانتهاءً باستشهاد ياسر عرفات، ثم تواصل التدهور في الوضع الفلسطيني مع اتفاق دايتون الأمني عام 2007، والذي جاء ليكرس الانقسام ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إثر الصدام بين حماس وفتح، بعد نجاح حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وقيام حكومة برئاسة اسماعيل هنية، وهو في جوهره انقسام سياسي بين اتفاق أوسلو واستمرار نهجه من جهة، وبين معارضته واستمرار المقاومة الذي عبّرت عنه كل من حماس وحركة الجهاد الإسلامي من جهة أخرى.
وبهذا انتهى الوضع الفلسطيني ببناء قاعدة مقاومة مسلحة جبارة في قطاع غزة، خاضت أربع حروب ناجحة حتى 2021، فيما انتهى اتفاق أوسلو، ودخل نهجه في مأزق خانق، وتكرسّ اتفاق التنسيق الأمني، وتعاظمت سلطة الاحتلال، وتفاقم الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، فضلاً عن اشتداد اقتحامات المسجد الأقصى.
إن الوضع الفلسطيني أخذ يتغيّر نوعياً، لا سيما في القدس والضفة الغربية بعد حرب سيف القدس، وما بعدها، أي ما بين 2021 و2023. فقد شهدت السنوات الثلاث الأخيرة تغيّراً هائلاً في تدهور وضع الاحتلال عسكرياً وسياسياً ومعنوياً.
كانت البداية مع حرب سيف القدس التي انتقلت إلى إدخال القدس والمسجد الأقصى والضفة الغربية في استراتيجية المقاومة المسلحة في قطاع غزة، وهو ما أخذ يسمى باستراتيجية "وحدة الساحات" مع مستوى معطى من المرونة في تطبيقها أو ترجمتها.
إن التغيّر الأول الذي هز الاحتلال هزاً مقدّراً تمثل بالعمليات الفردية ذوات الفعالية العالية، كما عبّرت عنها عمليات كل من عملية بئر السبع (محمد غالب أبو القيعان)، وعملية الخضيرة (أيمن وخالد أغبارية)، وعملية حيّ "بني براك" (ضياء حمارشة، الذي ألهم آلاف الفتية ليكون قدوتهم)، وعملية "دوزينغوف" (رعد حازم زيدان).
وقد أسماها بعض الإعلام بعمليات الذئاب المنفردة، حرفاً لمدلولاتها وأبعادها، فهي لم تكن كما يحدث مع الذئاب حين يفتك بها الجوع، فتفقد وحدتها وتتفرق، لتتحوّل إلى ضوارٍ منفردة.
فعلى العكس، تجلت تلك العمليات، بالرغم من بُعدها الفردي الظاهري، في مقاتلين عبّروا عن إرادة شعبية جماعية جامحة وراسخة، وذلك بدليل سرعة التبني الشعبي الهائل، ولا سيما الشبابي من جهة، كما ظاهرة أمهات الشهداء وآبائهم، في دعمهم والتحريض على التشبه بهم، ومواصلة طريقهم (واحدة من النماذج المعبّرة أم ابراهيم النابلسي) من جهة أخرى.
إن ظاهرة العمليات الفردية المنبثقة والمؤيّدة من الشعب بشبه إجماع، وما واكبها من جنائز التشييع المصحوبة بهتاف الله أكبر، وبقبضات الشباب والفتيان الداعية لمواصلة المقاومة المسلحة، ثبّتا الوضع الجديد، وأكدا تشكل قراءة جديدة لوضع العدو، وهو الشعور بضعفه، والقدرة على تحدّيه ومواجهته (ما يُمكن أن يُسمّى بالعامية الفلسطينية: "طاحت العين به")، الأمر الذي أسهم في تعزيز ظاهرة كتيبة مخيم جنين، ثم عرين الأسود في نابلس، وذلك برفع السلاح العلني، مما أدخل وضعاً جديداً على معادلة ميزان القوى الداخلي في الضقة الغربية المثخنة بالاستيطان وسيطرة الاحتلال.
إن بروز السلاح إلى العلن، كما حدث بداية في مخيم جنين ثم من خلال عرين الأسود في نابلس، أدى إلى أن تميد الأرض تحت الاحتلال من جهة، وإلى أن تأخذ العدوى تهدّد بالانتشار في المخيمات والقرى والمدن في الضفة الغربية، وذلك مع كل يوم يمضي دون أن يقدم العدو على تصفية الظاهرة التي تعني نهاية الاحتلال إذا ما توسعت وتكرست.
حاول العدو أن يقوم بعمليتين عسكريتين خاطفتين لاغتيال عدد من المقاومين في مخيم جنين ونابلس، وقد دُبرتا ونُفذتا خلسة، كما كان يفعل العدو الصهيوني في لبنان باعتباره أرضاً عدوّة (مثلاً عملية فردان 1973). أما أن يعتبر أرض مخيم جنين ونابلس بأنها أراضٍ عدوّة، وليست أراضي تحت الاحتلال فهذا يعني تغيّراً جوهرياً في ميزان القوى، سوف يمهّد لفرض الانسحاب عليه لاحقاً، أو سيوجد معادلة اشتباك: بين ضفة غربية مسلحة علناً من جهة، واحتلال مكبل اليدين من جهة أخرى.
ومن هنا يأتي التطوّر الذي تشكل بعد بروز السلاح في مخيم جنين ونابلس، ثم إرهاصات مماثلة تكاد تصل لتكون ظاهرة عامة، ليشيرا إلى احتمال تشكل معادلة الاشتباك آنفة الذكر، ولا سيما بعد الانتصارين اللذين أفشلا هجومين استهدفا السيطرة على مخيم جنين، وإنهاء المقاومة المسلحة كلياً، ولا سيما هجوم الثالث والرابع من تموز/ يوليو 2023.
ومن هنا أصبح مستبعداً إلى حد بعيد أن يكون في قدرة الاحتلال تصفية المقاومة المسلحة في الضفة، ويزيد هذا التوقع قوّة عندما تضاف ضرورة تدخّل المقاومة في قطاع غزة، كجزء من معادلة الاشتباك الجديدة التي تجعل عدم القضاء على المقاومة خطاً أحمر، كما عدم التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى خطاً أحمر، يقتضيان تدخل المقاومة في غزة في اللحظة الحاسمة.
وهنا يمكن التأكيد من خلال تقدير موقف دقيق لموازين القوى الداخلية في فلسطين وإقليمياً وعالمياً، بأن حرباً شاملة بتدخل المقاومة في غزة ستكون منتصرة، وستنتهي بخسارة جيش العدو الذي هُزم في اقتحامي مخيم جنين، وفشل في إنهاء ظاهرة انتشار المقاومة على مستوى الضفة الغربية، كما العمليات ذات الظاهر الفردي.
بكلمة، إن نظرة شاملة، وبالتدقيق الصحيح، تؤكد أن الاستراتيجية التي يجب أن تدعم وتؤيد ويسهم الجميع في تبنيها، هي الاستراتيجية التي رسمها الصراع على أرض الواقع في الضفة الغربية، وأثبتت نجاعتها وإمكان نجاحها.
فالوضع الذي وصلته المقاومة في الضفة الغربية يجب أن يتحوّل إلى استراتيجية متبنّاة، ولا مساومة عليها، ولا أدنى انحراف عنها. فالصراع العملي ذاهب إلى اشتباكات متواصلة مع العدو؛ لأنه لا يستطيع أن يحافظ على احتلاله، ومن ثم توغل الاستيطان، إلّا بتصفية المقاومة في مخيم جنين ونابلس وطولكرم ومخيم نور شمس ومخيم بلاطة، ومواقع أخرى، ومنع انتشار عدواها. ومن ثم فإن تبني هذه الاستراتيجية، كأولوية، وتحويل سياسة الاقتحامات إلى فشل، وتحريم نجاحها، هو الواجب الملحّ على كل الفصائل والنخب، بما في ذلك حركة فتح، ومختلف الأنشطة السياسية الجانبية.
قطعاً لا بد من تأييد هذه الاستراتيجية، أو في الأقل عدم السماح بوضع العصي في دواليبها، أو الشغب بنشاطات تبتعد عن الأولوية، وتنحرف عما هو النشاط الرئيسي الحاسم في هذه المرحلة، وقد أصبحت مسألة غير قابلة للنقاش، فالوضع الفلسطيني في حرب مفتوحة.
لقد وصل الصراع على أرض فلسطين مع الاحتلال والكيان الصهيوني إلى مرحلة جعلت الاحتلال مستحيلاً، وهيّأت لتشكل مقاومة مسلحة من نمط مخيم جنين وعرين الأسود في الضفة الغربية، وإلى حماية شعبية جبارة للمسجد الأقصى. واقع له مقوّماته، وهو واقع يمكن الانتقال منه إذا ما تكرسّ إلى وضع القدم على طريق تحرير فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.
والمسؤولية هنا أن يتحرك الجمييع للحشد وراء هذا الاتجاه، وإنجاح هذه الاستراتيجية التي وصل إليها الصراع.
هذا وتبقى مسؤولية كبرى على سلطة رام الله، ألّا تسمح للضغط الأمريكي الصهيوني عليها بأن تقوم هي بما فشل العدو أن يقوم به؛ لأن في ذلك نصرة لفتح وتجنباً لارتكاب جريمة لا تغتفر بحق الشعب الفلسطيني ومقاومته، بل ستكون أمّ الجرائم.
وسوم: العدد 1042