أخلاقُ الإسلام وسُـمُــوُّه، في السِّلم والحرب
يتميّز الإنسان المسلم عن غيره من الناس بأخلاقه الفاضلة، المستمدّة من تعاليم الإسلام وروحه ومنهجه.. ولأنّ غاياتِ الإسلام وأهدافَ المسلم، شريفة سامية، فلا بد أن تكونَ وسائلُ الوصول إليها ساميةً شريفة، إذ لا يجوز مطلقاً، ولا يمكن أن يصلَ المسلمُ إلى هدفه الحضاريّ لتحقيق الخير لمجتمعه وللبشرية.. بوسائل خسيسةٍ أو وضيعة، وعماد ذلك كله، هو حُسنُ الخُلُق، في حالات السِّلم والحرب.
* * *
الإنسان في منهج الإسلام حرّ في اختياره، ومسؤول عن هذا الاختيار، والإسلام لم ينتشر بالعنف ولم يُجبِر الناسَ على اعتناقه إجباراً، وإنما كان دائماً يدعو إلى تحقيق عزّة المسلم، وإلى امتلاك القوة الكفيلة بحماية المسلمين وأوطانهم وثرواتهم وأعراضهم ودمائهم، من اعتداءات الآخرين.. وحين كان طواغيت الأرض يَـحولون بين الناس والإسلام العادل المحرِّر لهم.. فقد قام المسلمون بتحرير الناس من عبودية بعضهم بعضاً، إلى عبادة الله عزّ وجلّ الواحد الأحد، وقد كان الإسلام -وما يزال- محرِّراً للبشر، بعقولهم وأرواحهم وكينونتهم وإنسانيّتهم وكرامتهم.. وهل كانت (جَوْهرة) الفاروق عمر بن الخطّاب (رضوان الله عليه)، أو ما عُرِف بوثيقة (العُهْدة العُمَرية)، التي ما تزال تُدَوِّي في فضاءات الأرض، حين دخل القدس فاتحاً، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وقد منح فيها الأمان لنصارى بيت المقدس، وأمر باحترام كرامتهم الإنسانية ودينهم وعقيدتهم النصرانية التي اختاروها لأنفسهم.. هل كانت إلا ضمن هذا السياق الإسلاميّ، الذي يمثّل تنفيذ أرقى ما يمكن من العلاقات الإنسانية بين البشر؟!.. فقد ورد في تلك الوثيقة (العُهدة):
[.. أنه لا تُسكَن كنائسُهم ولا تُهدَم، ولا يُنتقَصُ منها ولا من حَيِّزِها، ولا من صَليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دِينهم، ولا يُضارّ أحدٌ منهم..]، [..إنّهم آمِنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم، لا تُهدَم ولا تُسكَن..]!..
وهذا هو الصِّدّيق أبو بكرٍ (رضوان الله عليه)، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يُلزِمُ بها جنودَه، مع أنهم في حالة معركةٍ مع عدوّهم: [لا تخونوا ولا تغدروا ولا تَغُلّوا ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيراً إلا للأكل، وإذا مررتم بقومٍ فرغوا أنفسهم في الصوامع (أي أماكن العبادة والصلوات) فَدَعُوهم وما فرغوا أنفسهم له..]!..
* * *
إن أبا بكرٍ الصدِّيق والفاروقَ عمر، قد تربيا في مدرسة معلمهما ومعلّم البشرية رسولنا ونبينا وحبيبنا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلّم، إذ عندما تعرّض سيد خلق الله عزّ وجلّ، للأذى والظلم، كان دعاؤه الخالد يطرق أبواب السماء: [اللهم إليك أشكو ضَعفَ قوّتي، وقلّةَ حيلتي، وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين، أنتَ ربُّ المستضعَفين وأنتَ ربي.. لكَ العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك]!.. لكنه، مع كل ما اعتراه من ظلمٍ وأذىً وألمٍ وحزن.. فقد رفض أن يُطبَقَ على قومه الأخشبان (الجبلان)، انتقاماً أو حقداً أو انتصاراً للنفس.. بل قابل الإساءة البالغة والأذى الشديد، بروح المؤمن الطاهر، وقلب الرجل الكبير، وصدر صاحب الرسالة الواسع: [بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم مَن يَعْبُدُ اللهَ وحدَهُ ولا يُشرِك به شيئاً] (متفق عليه).
وهل كان نهجه صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، الذي اتّبعه مع مَن طردوه وطاردوه وحاصروه وعذّبوا أصحابَه وقتلوا أعزّ الناس إلى قلبه ونفسه.. هل كان إلا ترجمةً حيّةً لأسطع الأدلّة على سماحة الإسلام، وعلى رقيّ الأخلاق التي يدعو إليها، لتحقيق كرامة الإنسان في أفضل حالاتها؟!.. وهل دخل الناسُ في دين الإسلام أفواجاً إلا باختيارهم الكامل، بعد أن ظهر الحق وزهق الباطل، وتبيّن للناس النورُ من الظلام؟!..
* * *
إنّ آداب الحرب في الإسلام، تحثُّ على الالتزام بأسمى درجات الأخلاق الإسلامية والمسامَحة والعدالة، نذكر منها:
1- التزام السّلم أصلاً من أصول التعامل مع الأمم الأخرى:
فإن طلب الأعداء السِّلم والتزموا بموجباته، فينبغي على المسلمين أن يستجيبوا لهم، فيُوقفوا الحرْب تلبيةً لرغْبتهم السِّلْمية، والتزاماً بقوله عزّ وجلّ: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ). (الأنفال/61).
2- ألا يُقتَل إلاَّ الـمُقاتِل:
قال صلَّى الله عليْه وسلَّم: (ألا لا تقتُلوا ذرّيَّةً، ألا لا تقتُلوا ذرّيَّةً، كلُّ نَسَمةٍ تُولد على الفطرة..). (صحيح الجامع/5571).
وقال الإمام الأوْزاعي: (لا يُقتَل الحُرَّاث والزُّراع، ولا الشَّيخ الكبير، ولا المجنون، ولا راهب، ولا امرأة).
3- النهي عن الغدر والتمثيل بالقتلى:
قال صلَّى الله عليْه وسلَّم :(اغزوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُـمَــثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً). (رواه مسلم).
4- النهي عن التدمير والتخريب من غير حاجة:
فقد ورد في وصيَّة أبي بكرٍ الصدّيق (رضوان الله عليه) ليزيد بن أبي سفيان، عندما بعثه إلى الشَّام: (.. وإنَّكم ستجِدون أقوامًا قد حبسوا أنفُسَهم في هذه الصَّوامع، فاتْركوهم وما حَبسوا له أنفُسَهم، ولا تقْتلوا كبيراً هَرِماً ولا امرأةً، ولا وليداً، ولا تخربوا عمراناً، ولا تقْطعوا شجرةً إلا لنفع، ولا تَعقِرُنَّ بهيمةً إلاَّ لنفع، ولا تَحرِقُنَّ نخلاً ولا تُغرِقُنَّه، ولا تغدرْ، ولا تمثِّل، ولا تجبنْ، ولا تغلُل). (سنن البيهقي(.
5- إكرام الأسير الذي لم يرتكب ما يُعرَف بجرائم الحرب:
( كان صلَّى الله عليْه وسلَّم يُؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أَحسِنْ إليه).
* * *
بهذه الأخلاق، فتح المسلمون مغاليق القلوب، قبل أن يفتحوا البلدان والأمصار، وذلك كله، كان امتثالاً لما أمرهم به الله عزّ وجلّ، والتزاماً بمنهج الإسلام الذي بلّغهم إياه سيد الخَلق محمد صلى الله عليه وسلم.. فأين أخلاق أعدائنا الحاقدين المجرمين الإرهابيين، الذين يتّهمون الإسلام والمسلمين زوراً بالإرهاب.. وأينهم من أخلاق ديننا وسماحته؟..
وسوم: العدد 1044