الاستقرار المخادع في العراق وخلايا الترويع النائمة
واهم من يظن أن العراق يمر بحالة استقرار، وكل التحليلات التي تُبشّر بذلك بعيدة عن الواقع تماما. قد ينحو البعض نحو تبني هذا التصور، مستندين إلى أن العراق ليس في حالة فراغ سياسي وفيه حكومة، ورغم سيطرة الأذرع السياسية للميليشيات على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإن تهديد الأصول الأمريكية المادية والمعنوية في البلاد قد توقف. وهناك حالة من التناغم السياسي بين الطرفين، يترافق مع هذا وذاك تحرك لتحقيق انفتاح على المحيط العربي ودول العالم. أيضا لم تعد هجمات تنظيم الدولة بارزة في المشهد الأمني، ما يُعطي تصورا لدى البعض بأن القبضة الأمنية قد انبسطت على جميع الأراضي العراقية، لكن ما لا يمكن نسيانه هو أن حالة الاستقرار ليست محكومة بهذه العوامل فقط، بل بالأهم من كل ذلك هو السلوك السياسي للطبقة الحاكمة، الذي هو عينه من يقود إلى حالة الاستقرار أو اللاستقرار.
عقب الإعلان عن تشكيل الحكومة القائمة اليوم في بغداد، قال أحد زعماء الميليشيات المتنفذين صراحة، بأن الحكومة الحالية هي حكومة مقاومة خالصة. وأن رئيس الوزراء ليس سوى موظف في حكومة المقاومة، وعندما نعرف أن مفهوم المقاومة لديهم يعني مجموعة الميليشيات المنتظمة في الحشد الشعبي وخارجه، يصبح الحديث عن الاستقرار خداعا لا يمت إلى هذا الوصف بصلة، كما لا تُشكّل أية حالة على أرض الواقع العراقي، وصفا يمكن الاستناد إليه في تصنيف الوضع القائم على أنه حالة استقرار. لماذا؟ لأن التصنيف السياسي الفعلي للميليشيات، أنها عناصر من خارج إطار الدولة، بالتالي تصبح حالة الاستقرار صناعة شكلية وقيامها بالنسبة لهم مرتبطة جذريا بهدف واحد وهو، تعزيز الكيان المادي والمعنوي لهذه الميليشيات على الساحة، والهيمنة في الداخل، والتأثير في المحيط المباشر وما بعده. وهي بهذا تسعى إلى أخذ الشرعية لهذا الدور بالقوة من المتضررين، وكذلك من القادرين على توزيع الأدوار من القوى الإقليمية والدولية، وبذلك تكون تحركاتها ليست مرتبطة بهدف تعزيز كيان الدولة المادي والمعنوي، ولا بإنتاج حالة استقرار ورخاء سياسي واقتصادي وأمني.
لقد أفلس النظام السياسي القائم في العراق أيديولوجيا، ووقف في طريق مسدود سياسيا، وافتقر للقدرة على معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الهيكيلية
كما أن أجندة السلطات الميليشياوية، تقتضي أن تكون الدولة شبه دولة، وهذه الشبه دولة يجب أن لا تتمتع بالقوة المادية والمعنوية بما يجعلها دولة بكل معنى الكلمة، لأنها إن كانت كذلك فلن توفر لهم المسرح الذي يظهرون عليه، ولن يستطيعوا التأثير سياسيا فيها، حيث من بديهيات السياسة أن لا مكان للميليشيات في الدول الرصينة، في الوقت نفسه يجب أن لا تكون شبه الدولة هذه ضعيفة جدا، إلى الدرجة التي لا يستطيعون أخذ الشرعية السيادية منها أمام الآخرين، فالدول الرثة وفق مبدأ العلاقات الدولية معدومة التأثير، وغير قادرة على فرض شروطها، ولا يحظى مسؤولوها بالشرعية السيادية أمام المجتمع الدولي، لذلك ما يناسبهم هو الدولة التي فيها الهياكل السياسية قائمة، لكن عملية صنع القرار في مكان آخر خارج هذه الهياكل، وهم زعماء الميليشيات والمجاميع المسلحة وأُمراء الطوائف، ولأن الحكومات القائمة في العراق منذ عام 2005 وحتى العام المنصرم 2022، لم تحقق الاستقرار المُخادع الذي تنشده الميليشيات، بهدف الحصول على الشرعية السيادية أمام الآخرين، فإنها ذهبت إلى ترشيح رئيس وزراء ممن يُطلق عليهم (عراقيو الداخل). بهدف تلميع صورة الحكم القائم. والإيحاء بأن هنالك تطورا في العملية السياسية القائمة، وكل ذلك أوهم البعض أن حالة من الاستقرار تسود الوضع العراقي. لكن خلايا الترويع النائمة هي من تُعطي دليلا واضحا، على أن الواقع العراقي يعيش فوق حالة من الاستقرار المُخادع، ولعل الأحداث الداخلية اليومية التي يعيشها المواطن في هذا البلد، هي التي تنفي جملة وتفصيلا أي حالة استقرار مزعوم. فهنالك خلايا نائمة تعبث بالاقتصاد العراقي، وتسرق أموال الخزينة العامة، من دون أن يستطيع أحد محاسبتها، لتظهر في ما بعد معلومات تشير إلى أن هذه الخلايا النائمة، مرتبطة بزعماء الصف الأول والثاني للميليشيات المتنفذة، وبذلك فهي تمارس الترويع الاقتصادي على المواطن البسيط، بما يمس مصادر رزقه وأمواله المنقولة وغير المنقولة. هنالك خلايا نائمة تتصدى للقانون في وضح النهار من كلا الجنسين، وتعلي كعبها عليه، وتُهين رجال إنفاذ القانون علنا أمام الناس، كما حصل في أحد شوارع بغداد مع رجل المرور، الذي حاول تطبيق القانون، ليتضح لاحقا أن المرأة التي اعتدت على رجل المرور مرتبطة بعناصر نافذة من الميليشيات، وهي التي توفر لها الحماية والقدرة على أن تكون فوق القانون. وهذا بحد ذاته ترويع مكشوف لكل مواطن يعيش في هذا البلد، خاصة أولئك المكلفين بتطبيق القانون. ما يعزز من حالة انكفاء القانون خوفا من الصدام مع هذه الخلايا. أيضا هناك نوع ثالث، وهي خلايا تكميم الأفواه ومصادرة حرية التعبير، وعدم السماح بالرأي الآخر، فهناك جحافل من المحامين المرتبطين بالفصائل المسلحة، يعكفون في ورش مختصة على تمحيص وتدقيق كل رأي يصدر أو مقال يُكتب، ولعل الأكثر تأثيرا هي تلك الخلايا النائمة التي تحاول فرض أفكارها الطائفية الخاصة، على بقية المواطنين، بالتهديد والترويع والوعيد، وتقتحم أماكن العبادة لإجبار رجال الدين على تغيير مناهجهم في الخطابة والوعظ، ولعل المثال الأبرز على هذا النوع، هو قيام أحدهم باقتحام أحد الجوامع في بغداد في 28 من الشهر الماضي، مُقاطعا خطيب الجُمعة، وفارضا أفكاره عليه من باب الاستعلاء الطائفي المقيت.
إن الميليشيات لكونها قوى غير مستقبلية، ومن خارج إطار الدولة، فإن الزعامات فيها لا يفكرون بالإقناع كوسيلة تأثير. هم يتصورون أن عوائد الاستثمار في الإقناع ليست فورية بما يكفي لتكون مهمة على الفور، على النقيض من ذلك أن رجال الدولة الذين يفكرون في المستقبل يكونون دائما على استعداد لاستيعاب التكاليف قصيرة الأجل للاستثمار في الإقناع، الذي ستثبت قيمته على المدى الطويل. صحيح أن القوى الميليشياوية غالبا ما تفوز بسباقات الهدم والقتل والتدمير، لكنهم لا يعرفون ما يمكن أن تكون تكاليف ذلك، على العكس من رجال الدولة الذين يضعون رهاناتهم على الشعوب دائما.
لقد أفلس النظام السياسي القائم في العراق أيديولوجيا، ووقف في طريق مسدود سياسيا، وافتقر للقدرة على معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الهيكيلية. وقام بتعذيب سفينة الدولة حتى الموت، لكنه بقي محتفظا بالقدرة على القتل الوحشي وتكميم الأفواه وتغييب الناس، وفي حين كان لكل زعيم في هذه السلطة الرثة مدفع على يمينه وآخر على يساره، كان رجال ونساء وشباب وأطفال العراق هم الذين يسيرون في وادي الموت منذ عام 2003 وحتى اليوم. لذلك فالحديث عن استقرار يمر به هذا البلد هو تفاؤل كاذب بطعم خداع باسم آخر، ففي كل مرة يأتي رئيس وزراء جديد لا يتغير أسلوب العمل السياسي، الذي يتغير هو أداة الطحن. وهذا تعذيب لا هوادة فيه، ولا يمكن التنبؤ به، وقد أدى إلى إغراق الأمة في دوامة من اليأس، ما دفع الكثيرين إلى التساؤل: هل سينتهي ذلك؟
وسوم: العدد 1045