وقفة عند " النسوية " على اختلاف مرجعياتها من منظار المرجعية الإسلامية
بداية لا بد من وقفة مورفولوجية أو صرفية عند لفظة " نسوية " التي صار بعض من يستعملونها، يحركون حرفي النون والسين بفتحتين ، وهو تغيير لا تجيزه قاعدة النسب الصرفية في اللسان العربي، لأن هذه اللفظة، هي نسبة إلى لفظة نسوة ـ بكسر النون ، وتسكين السين ـ وهي جمع قلة للفظة امرأة، التي لا ينسب لها ، بل يعدل عن النسبة إليها إلى النسبة إلى جموعها فيقال: نسوية ـ بكسر السين وتسكين السين ، كما يقال أيضا : نسائية ، علما بأن النسب يكون إلى المفرد وليس إلى المثنى أو الجمع، بل يجب تحويلهما أولا إلى مفرد قبل إلحاق ياء النسب . ولما كانت النسبة إلى مفرد نساء ونسوة غير جائزة، عدل عنها إلى النسبة إلى جموعها. ولهذا عومل جمع القلة نسوة معاملة المفرد في النسبة . ومعلوم أنه توجد في اللسان العربي نسب شاذة أو سماعية ، وهذا من فضله على باقي الألسنة وذلك لغنى معجمه ، وهو كما قال شاعر النيل على لسانه:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات
وقد يتذرع من يلحن في النسبة إلى لفظة نسوة ، بأن هذه النسبة الملحونة ، قد صارت لها دلالة اصطلاحية أو مفهومية ، وبذلك خرجت عن دلالة أو مفهوم النسبة ، كقولهم "التاريخانية" ، عوض التاريخية حتى لا يلتبس المصطلح أو المفهوم بالمنسوب ، وما شابه ذلك مما صار رائجا، وهو خارج ضوابط اللسان العربي .
أما الوقفة عند مفهوم " النسوية " سواء نطقت نطقا يحترم صرف اللسان العربي أو يشذ عنه ، فهي تعبير عن مجموعة من الحركات الايديولوجية والسياسية والاجتماعية، الهادفة إلى تأسيس مساواة النساء جنسيا، وسياسيا ،واقتصاديا، واجتماعيا مع الرجال . وهذا المطلب سببه سيادة الاعتقاد بأن النساء يعاملن بشكل غير عادل في المجتمعات البشرية التي تعطي الأولية والأفضلية للرجال على النساء . ولهذا تهدف هذه الحركات إلى محاربة الصورة النمطية الجندرية أو الجنسية للمرأة، لتصير مساوية لجندرية الرجل، ولهذا سطرت مطالب، وسميت حقوقا من أجل تحقيق هذه المساواة المنشودة ، والتي منها : المساواة في حق التعليم ، وفي حق العمل والتوظيف ، وفي حق الأجور ، وفي حق الملكية ، وفي حق العقود ،وفي حق الزواج ، وفي حق إجازة الأمومة ، وفي حق تحديد النسل ، و في حق منع الحمل ، وفي حق الإجهاض ... إلى غير ذلك من المطالب المتناسلة باستمرار حسب طبيعة البيئات والمرجعيات السائدة فيها ، إلى جانب حق الحماية من الاغتصاب، بما في ذلك ما بات يعرف باغتصاب الأزواج للزيجات ، وحق الحماية من التحرش الجنسي ، وحق التصرف في الجسد وتغييرجنسه ، وفي تغيير معايير اللباس الأنثوي ... وهلم جرا، علما بأن هذه المطالب قد تعدت كل حدود إلى أن بلغت المطالبة بالعلاقة الجنسية المثلية ، وبالعلاقة الجنسية الرضائية ...
ودون الخوض في المسار التاريخي لهذه الحركات النسوية ، لأن الحديث يطول فيه كثيرا ، ودون الوقوف عند من تزعمتها من النساء غربا وشرقا ، ومن أيدها من الرجال في بلاد الغرب ، وفي بلاد العرب ، والذين انتقلت إليهم عن طرق التقليد بفعل سيادة الاعتقاد بتفوق قيم الإنسان الغربي على غرار تفوقه المادي والتكنولوجي ، سنركز على كون هذه الحركات قد بدأت معتدلة المطالب بسبب ضياع بعض الحقوق ، وقد كانت لديها مبررات بسبب الحيف الذي كانت تعاني منه المرأة الغربية، ثم ارتفع سقف تلك المطالب حتى صار إلى ما هو عليه اليوم . ويرى من أرخوا لتلك الحركات أنها كانت عبارة عن موجات أربع، بدأت الأولى في القرن الثامن عشر ، والثانية في القرن التاسع عشر ، والثالثة في القرن العشرين ، والرابعة في القرن الواحد والعشرين . ويذكر بعض هؤلاء أنه قد صارت بينها خلافات بل وصراعات أيضا، وذلك بخصوص طبيعة المطالب في كل موجة . ولقد كانت هذه الحركات تابعة للتيارات الإيديولوجية السائدة حيث كان بعضها ليبراليا ، وبعضها برولتاريا ماركسيا ... إلى غير ذلك حتى صارت لكل مجموعة أمم نسويتها الخاصة بها منها النسوية غربية ، والنسوية الصينية ... والنسوية العربية التي نشأت مع تيار القومية العربية ، وكان المنظر لهذه الخيرة هو الكاتب قاسم أمين وهو يسمى أبا النسوية العربية ، كما كان المشرع لها الرئيس جمال عبد الناصر في مصر ، وغيره من الساسة في البلاد العربية الأخرى ، وقد تفاوتت الحركات النسوية في تلك البلاد من حيث سقف مطالبها حتى سادت العلمانية الغربية ، وصار لها أنصار من العرب ، وانتهت في بعضها المطالب إلى ما انتهت إليه في البلاد الغربية من تطرف وشذوذ.
وفي إطار الصراع بين العلمانية والإسلام ، نشأت حركات نسوية إسلامية كرد فعل على الحركات النسوية العلمانية، والتي تشبثت بما شرع الله تعالى لها في كتابه الكريم ، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، غير أن بعض تلك الحركات ربما انزلقت إلى مطالب نسوية ذات طبيعة علمانية بسبب تقليد أعمى أو دون قصد أو عن غفلة وجهل ، وربما قد يكون ذلك مما دُسّ للمرأة المسلمة كما يُدسّ السم في الدسم .
وعندما نعرض الحركات النسوية الغربية أو غيرها من الحركات حسب مرجعياتها على المرجعية الإسلامية كتابا وسنة ، نلاحظ بداية أنه يجب على النسوية الإسلامية إذا جاز وجودها ، ولا عيب إن وجدت ملتزمة بشرع الله عز أن تركزعلى تمكين المرأة المسلمة من حقوقها التي أعطاها خالقها دون التفكير في تخطيها إلى ما لم يشرع لها ،لأنها قد لا تمكن منها، وهو أمر حاصل . ولا يقبل من هذه النسوية الإسلامية أن تجعل حقوق المرأة المنصوص عليها في شرع الله تعالى موضوع انتقاد بأن توصف بما لا يليق بعدله سبحانه المنزه عن الظلم لقوله جل في علاه : (( وما ربك بظلام للعبيد )) . ولهذا يلزم كل مؤمنة ، وكل مؤمن قبول ما شرع الله تعالى لهما شرعا عادلا، لا يأتيه ظلم ولا باطل من بين يديه، ولا من خلفه مصداقا لقوله تعالى : (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )) . وإذا كان تطبيق شرع الله تعالى قد يشوبه عيب عند البعض ، فلا يمكن وصفه بذلك أو تحميله مسؤولية سوء التطبيق التي هي مسؤولية بشرية.
وعندما نعرض مختلف المطالب النسوية على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية على المرجعية الإسلامية ، نجد بعضها مطالب قد صانها الإسلام، وأقر بها قرآنا وسنة ، وأنه قد نهى عن ابتذالها ، بل أمر بمعاقبة من يفعل ذلك.
وعلى أس تلك التي المطالب المساواة في الكرامة الإنسانية، وأكرم بها من كرامة لقول الله تعالى : (( ولقد كرمنا بني آدم ))، وآدم عليه السلام، له بنون وبنات وكلهم مكرم في دين الله عز وجل .ويكفي أن تتحقق هذه الكرامة على الوجه الذي شرعه الله تعالى لتتحقق المساواة بين الرجال والنساء في كل شيء إلا ما يعزى للاختلاف الجندري وهو اختلاف يحقق التكامل بين الجنسين ولا سبيل للحديث فيه عن تفاضل بالمعنى الضيق للتفاضل ، وذلك لقول الله تعالى : (( ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نسيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ))، ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم : " النساء شقائق الرجال " والشقيق في اللسان العربي ما كان مثيلا ونظيرا ، وهو أيضا ما كان النصف من الشيء الواحد كنصف الفاكهة على سبيل المثال ،والشقيقة مرض يصيب نصف الرأس . والشقيقان ما كانت بينهما روابط تجمع ولا تفرق ، ولا تنتقض هذه العلاقة بين الرجال والنساء بسبب الاختلاف الجندري .
ولقد تجاوزت كل المرجعيات الحديث عن المطالبة ببعض الحقوق كحق التصويت الذي تكون نتائجه أحيانا كثيرة حسب غلبة عدد النساء أو حسب اختلاف الطبيعة الديمغرافية للمجتمعات البشرية . ومما صار أيضا مفروغ من الحديث عنه حق الشغل أو العمل ، ورب قطاعات تكون النساء هن المستحوذات عليها . ولا داعي للحديث عن حق التعليم في عموم المعمور باستثناء بعض المجتمعات التي تعاني من الفاقة وهي عائق يؤثر على تعميم التعليم إلى جانب سيادة بعض الذهنيات الجامدة ، وهنا نذكر بكون الإسلام يعتبر طلب العلم فريضة وهو بهذا حق للجنسين معا .
وعلى هذا المنوال يمكن استعراض كل الحقوق أو المطالب التي تطالب بها مختلف النسويات في المعمور ، والتي لا تتناقض مع الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، ويمكن أن نجد في القرآن الكريم ، وفي السنة النبوية الشريفة من النصوص ما يدعم كل حق من تلك الحقوق.
وما لا تقبله المرجعية الإسلامية مما يسمى حقوقا عند بعض النسويات ، وما هي بحقوق ما ينقض الكرامة الإنسانية من شذوذ مخالف للجبلة كالمثلية والرضائية ، والإجهاض ، وتغيير خلق الله تعالى مما يوسوس به الشيطان لبني آدم كما ذكر الله تعالى في محكم التنزيل في قوله على لسان إبليس اللعين : (( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلّنهم ولأمنينّهم ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا فقد خسر خسرانا مبينا )).
وسوم: العدد 1046