اليوم الفرنسي من بيروت إلى الخليل
الحكاية الفرنسية مع المشرق العربي بالغة التعقيد، من المفاعل النووي الذي أعطته فرنسا لإسرائيل، إلى العدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر عام 1956م، وصولاً إلى حرب التحرير الجزائرية. غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتغير مع الموقف الفرنسي من حرب حزيران، وصولاً إلى المأتم الرئاسي المهيب الذي أقامه الرئيس جاك شيراك للشهيد ياسر عرفات.
هذا المقال ليس محاولة لتحليل العلاقات الفرنسية العربية أو الفرنسية الفلسطينية، بل هو محاولة للبحث عن العلاقة بين بيروت والخليل. والحقيقة أن الفضل لا يعود لي في هذا الاكتشاف، بل يعود أولاً إلى السيد جان ايف لودريان مبعوث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، للتوصل إلى انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانبة. كما يعود ثانياً إلى الاحتفال الذي تم أول من أمس في مدينة الخليل بالضفة الغربية تحت عنوان “يوم فرنسا في الخليل”. وهو احتفال استحدث منذ أربع سنوات على غرار احتفال “سبت سارة”.
الهدف من هذه الاحتفالات شبه الدينية هو تهويد الخليل حتى لو اقتضى الأمر اختراع علاقة مستحيلة بين فرنسا التي لم تكن موجودة في زمن البطاركة اليهود الذين يُشاع بأنهم دفنوا في الحرم الإبراهيمي. فكيف نجح مجموعة من المعتوهين الفاشيين الفرنسيين في بناء عيد وهمي منذ أربع سنوات، يعربد فيه السلاح وتقفل فيه المدينة ويرتفع هتاف “الموت للعرب”؟
وعلى الرغم من وجود تقليد سنوي لبناني يجري في قداس إثنين الفصح على نية فرنسا في الصرح البطريركي الماروني في بكركي، فإن المقارنة بين مشهدي الخليل وبكركي مستحيلة. ففي بكركي يقام قداس نوستالجي باهت فقد مضمونه الكولونيالي ويتصدره سفير دولة علمانية. أما في الخليل ففرنسا ليست سوى غطاء للشحن العنصري، حيث يعربد المستوطنون القتلة في الشوارع.
السؤال هو: ما علاقة فرنسا هنا في بيروت وهناك في الخليل؟
بعد انفجار المرفأ وزيارة الرئيس الفرنسي للبنان، بدا وكأن فرنسا قررت استعادة دورها كقوة عظمى على الأقل في لبنان: وعود إصلاحية، وإنقاذ للاقتصاد المتهالك من قبضة المافيا، وانتخابات مبكرة.
لكن سرعان ما تلاشت هذه الوعود أمام ثعابين المافيا اللبنانية، ومكر الطوائف، وضعف فرنسا. اكتشفت فرنسا أنها لم تعد دولة عظمى، وأن ما بقي من زمن تلك العظمة هو الثقافة الفرنسية. أما القوة العسكرية والاقتصادية فقد صارت في خبر كان.
لا شك أن السيد لودريان يريد مخرجاً من هذا الانسداد السياسي الذي يهدد باندثار لبنان بصفته “إنجازاً” كولونيالياً فرنسياً، غير أن المسألة صارت أكثر تعقيداً من ذلك. فلبنان يعيش أكبر هزيمة شعبية في تاريخه بعد هزيمة انتفاضة تشرين، والنظام اللبناني لم يعد إصلاحه ممكناً، إنه في حاجة إلى ثورة جذرية. وفرنسا التي يحكمها نظام نيوليبرالي ويهددها الصعود الفاشي ليست في وارد دعم هكذا ثورة، علماً أن شروط هذه الثورة لم تنضج بعد.
لذلك، تساءلت عن جدوى توزيع استمارات على النواب اللبنانيين عشية المؤتمر أو اللقاء الذي ستنظمه فرنسا في أيلول- سبتمر المقبل.
لقد أهينت الطبقة السياسية اللبنانية كثيراً، وإضافة إهانة لودريان لن تغير شيئاً، فالسياسيون اللبنانيون مجموعة من التماسيح التي لا يهمها سوى المال والسلطة، أما الناس في بلادي فصارت غير معنية بمصير بلاد تشعر أنها سرقت منها.
لودريان يلعب الورقة الفرنسية الأخيرة في لبنان، وسؤالي هو لماذا لا يلعبها في الخليل أيضاً؟ نستطيع القول إن الأسبوع الفرنسي في الخليل ليس أسبوعاً رسمياً نظمته السفارة الفرنسية في تل أبيب، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن الاسم الفرنسي يستخدم في أكثر الأشكال بشاعة. عصي وأسلحة نارية وجنون خطابي وعنصرية. هل نجد بين سفراء الدول العظمى من يجرؤ على توزيع استمارة على أعضاء الكنيست الإسرائيليين يسألهم فيها عن رأيهم في الاستيطان أو في محرقة حوارة؟
المسألة لا تتعلق بأسئلة لودريان، أو بجنون اليوم الفرنسي في الخليل، المسألة تتعلق بالفلسطينيين والعرب، فعندما نجد أسئلتنا ونكتشف طريقنا، سوف تذوب الأسئلة الكاذبة كما يذوب الشمع من أمام وجه النار.
وسوم: العدد 1046