هكذا يقتلون الآمال
في الماضي القريب، كان السؤال التقليدي الذي يتلقاه الناشئ حيثما ذهب: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ ولم يكن الناشئ يلقى عناء في الإجابة ليقول: ضابط، مهندس، طبيب، معلم، طيار…. لأن الأهداف كانت واضحة، لأن النماذج حاضرة، فالطريق لم يكن مجهولا، يكد الطالب في مراحل التعليم، ليتخرج من خلال إحدى الكليات التي تكفل له مثل هذه المهن والوظائف، ليعيش حياة كريمة مع أسرته، ويعوض أهله عن سنوات العناء التي أنفقوا خلالها على تعليمه، باختصار: كان هناك أمل.
لم يزل هذا السؤال كما هو، لكن الإجابة غالبا ما تختلف، ربما تكفي الصور المعلقة على جدران حجرة الناشئ التي تنطق بأحلامه وطموحاته، ستجد صورة ممثل أو مغنٍ أو لاعب كرة، لذلك لا تتعجب عندما تجد أغلب الناشئة يريدون أن يكونوا مثل فلان من الفنانين، أو فلان من لاعبي الكرة.
ما الذي تغير؟ حتما إنه الأمل، ماتت الآمال والأحلام على مذبحة الواقع، فالطالب الطموح يرى أنه مهما كدّ وكدح في التعليم وحصل على شهادة جامعية عالية، فلن يصل دخله في شهور إلى ما تتحصل عليه فنانة، وربما لا يتسع عمره الوظيفي كله للحصول على ما يحصل عليه فنان في مسلسل من 30 حلقة، إضافة إلى أنه حسبة بسيطة سوف يجد أن لاعب الكرة المحترف قد يجني من المال ألف جنيه استرليني في دقيقة واحدة، وهو ما يحتاج ذلك المسكين لكسبه إلى عمل شاق لأكثر من ستة أشهر.
هكذا تُذبح آمال الناشئة، والمسؤول عن ذلك تلك الحكومات التي تنفق على التجارة الكاسدة، وتحول أموال الخزائن إلى الترفيه، لإلهاء الشعوب عن التفكير في مساءلة أصحاب السلطة، وتضع الفنانين ولاعبي الكرة ـ الذين لا يتجاوز عملهم الترفيه والتسلية في حقيقة الأمر ـ في صدارة المشهد، ليصبحوا هم الثروة القومية التي لا تعدلها ثروة، بينما لا يجد أساتذة الجامعات ما يكفي عوائلهم للنفقة، ويعيش علماء الفيزياء والكيمياء والمفكرون، من دون أن يسمع بهم أحد، ويموتون على الحال نفسه، فلماذا يفكر الناشئة في صياغة أحلامهم على النحو الذي تتطلبه النهضة بوجود عقول وخبرات رفيعة!
والأمر هنا بعيد عن التنمر على الفنانين والرياضيين، لكننا لن نستطيع الهروب من حقيقة أن نهضة البلاد إنما تقوم على أصحاب العقول والخبرات والدرجات العلمية، وأن البلاد إلى هؤلاء أحوج من احتياجها إلى من يقوم بدور التسلية والترفيه. قتلت هذه الحكومات أحلام الناشئة في مستقبلهم العلمي، برؤاها العقيمة في توفير أسواق العمل أمام خريجي الجامعات، الذين صار معظمهم في الوطن العربي يعملون في غير تخصصاتهم، لتصبح تلك الشهادة التي تعب في الحصول عليها خلال سنوات طويلة حبيسة إطار معلق على الجدار.
إهمال منظومة التعليم من أبرز أسباب الخراب والتخلف على الأصعدة كافة في معظم البلدان العربية، فلم تنهض دولة إلا من خلال التعليم
قتلوا آمال الناشئة بهذا التهميش وتلك الوضاعة التي يُعامل بها المعلم، فهو يتحصل على أبخس الأجور، وقد أهدرت مكانته وهو الذي قال فيه الشاعر: كاد المعلم أن يكون رسولا. المعلم الذي كان يربي الأجيال، تقاعد عن رسالته بسبب المهانة التي يتعرض لها، ما جعله يلجأ في كثير من البلدان إلى الدروس الخاصة خارج إطار المؤسسات التعليمية الرسمية لتدر عليه دخلا وافرا، ومن الطبيعي أن يتخلى عن دوره في المدرسة التي تعطيه الفتات، فحدث ولا حرج عن المستوى الهابط الذي يظهر في أداء وظيفته.
إهمال منظومة التعليم من أبرز أسباب الخراب والتخلف على كافة الأصعدة في معظم البلدان العربية، فلم تنهض دولة إلا من خلال التعليم. حوالي 12٪ من العلماء الأمريكيين من أصل هندي، و36٪ من علماء (ناسا) هم من الهنود، وكذلك 38٪ من أطبائهم من الهنود أيضا، كيف وصل الهنود إلى هذا المستوى العلمي. لأن الهند راهنت على التعليم واتبعت نظاما تعليميا متطورا وجعلته سلوكا اجتماعيا دائما، حتى إن بعض الأمهات يبعن حُليّهن لتعليم أبنائهن، فظهر ذلك على سوق العمل وحدوث طفرة تكنولوجية، يقول الباحث منصور العرابي في كتابه «التجربة الهندية»: «نرى انعكاس مخرجات التعليم في الهند يظهر في سوق عمل مهم في منطقة الخليج العربي وإفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية، هذا الانعكاس نتيجة تطور تعليمي هائل شهدته وتشهده الهند في العلوم والآداب والعلوم التطبيقية المختلفة، حيث أسست العديد من الجامعات الوطنية المتخصصة، بالإضافة إلى ذهاب الأساتذة الجامعيين الهنود إلى مختلف أنحاء العالم».
تطور التعليم في الهند بسبب إشراف وزارة الموارد البشرية على المسارات التعليمية، والتمويل الضخم من الحكومة المركزية والحكومات المحلية، والاهتمام الكبير بالرياضيات والعلوم، ما أسهم في تخريج أعداد هائلة من حملة شهادات العلوم والهندسة، وتم ربط مخرجات التعليم باحتياجات السوق العالمية وتحديد متطلبات التنمية ومتطلباتها من العمالة. أما في ماليزيا، فقد بنى رائد نهضتها مهاتير محمد رؤيته على الارتكاز على التعليم فأولاه أهمية قصوى، حتى إنه في عام 2000 وصلت ميزانية التعليم إلى ما يوازي 23.8٪ من الإنفاق الكلي، وقام بإخضاع رياض الأطفال لوزارة التربية والتعليم، ووجه اهتمامه بشكل قوي إلى التعليم المهني والفني، حتى يؤهل الناشئة لسوق العمل، وأدخل الحاسب الآلي إلى 90٪ من المدارس، واعتمدت سياسته التعليمية على تنمية المهارات، وقام برفع أجور المعلم، وطبق مبدأ التعليم الإلزامي وإعانة غير القادرين على نفقات التعليم، وابتعث الطلاب إلى أرقى الجامعات العلمية في العالم.
تلك هي الدول التي لديها رغبة حقيقية في النهوض، تركز على التعليم، وتوليه اهتماما بالغا، وأقول رغبة حقيقية، لأن انعدام تلك الرغبة هي جوهر مشكلاتنا، معظم الحكومات العربية منشغلة بألعاب السياسة والتخطيط لإطالة العمر الافتراضي للحكم، وبذلك الإهمال يقتلون الآمال في الناشئة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1046