لماذا أُحبِطَ «الإسلام السياسي» وانتشت «الهندوسية السياسية»؟
سواء في البلد الوحيد الذي استطاع فيه الإسلام السياسي أن يصوغ نفسه كنظام سياسي وثقافي في آن، وعلى نحو مزمن، أي في إيران، أو على مستوى مجموع البلدان الأخرى التي تتداخل فيها الحصيلة الإجمالية لتخبط حركات الإسلام السياسي مع تخلع المجتمعات فيها والدول، يمكن القول إن الإسلام السياسي، أو الحركي، دخل في العشرية الأخيرة في مرحلة متقدمة من التشوش والإحباط.
هذه مرحلة يبقى من المتسرع الحديث بصددها عن تلاشي الإسلام السياسي أو عن ضموره على الصعيد الكوني. إنما ليس من المتسرع أبدا الحديث حيالها عن تعطل «المشروع الهيمني البديل» الذي كان يحمله ويعمل به.
يُضافُ الى ذلك سرب من التحديات المتصلة بكيفية إعادة انتاج تيار سياسي متدين، أو ديني مسيس، يأخذ بالحسبان، بجدية ومسؤولية، ما اصطدم به المشروع الهيمني للحركات الإسلامية، المعتدل منها والمغالي، «الثوري» فيها والإصلاحي والمحافظ، من عوائق وخيبات، وما أصابه من تصدع وانفكاك سحر وتقلص في القدرة الحيوية على الاستقطاب والمبادرة.
لقد استمد الإسلام السياسي أيديولوجيا كفاحية من التراث الديني، والتقت جميع تفريعاته وتنويعاته حول نقطة ابتداء مشتركة، وهي التنديد بالفجوة الحاصلة بين المسلمين وبين الإسلام الصحيح، ومن ثم تحديد «عصر ذهبي» للمسلمين، يرتبط بالزمن السابق على حدوث هذه الفجوة، وبعد ذلك اقتراح عصر ذهبي جديد إذا ما قُدر للمسلمين ردم هذه الفجوة المديدة.
والحال أن هذه النقطة المشتركة لم تنحصر بالإسلاميين، بل هي بالأساس من بنات أفكار رواد الإصلاحية الإسلامية أواخر القرن التاسع عشر. فجمال الدين الأفغاني ومن أعقبه كانوا السباقين لاعتبار المشكلة هي في الفجوة المتسعة بين المسلمين وبين الإسلام، إنما لم يقيدوا الإصلاح باستحضار نماذج «العصر الذهبي» السابق على حصول وتوسع الفجوة، بل جهدوا لتأصيل «الاقتباس» المشروط والمتحسب من حضارة الغرب الحديث، ومن دون أن يمنعهم مسعاهم التأصيلي هذا، سواء كان مقنعا ومتماسكا أم لا، من تثبيت مركزية «الاقتباس» عن العقلانية الغربية وعلومها وصناعاتها وعناصر مُكنتها، كمدخل ملكي ضروري لردم الفجوة المتمادية بين ما للإسلام وبين أحوال المسلمين، وكمدخل في الوقت عينه لدمج تاريخ المسلمين الحديث بالتاريخ العام للإنسانية على نحو منصف، وبما يليق بالإسهام الحضاري الطويل الأمد للمسلمين.
ما حصل بعد ذلك، ومع الانتقال من رواد موجة الإصلاح الديني إلى مقولات الإسلاميين الحركيين هو تخفيض منزلة «الاقتباس» وجعله دون «الإحياء» منزلة، بأشواط. وبالتالي الاقتصار في الاقتباس على ما هو تقني بحت، أداتي، إنما استيرادي أبدا… المهم أن يكون معقما من تسلل النصرانية المُعلمَنة والدهرانية المتوثنة، وأن يكون قابلا للمواشجة والمُؤَالَفَة مع ديناميات الإحياء وأمْزجته. وبالتوازي، حيثما كانت نظرة رواد الإصلاح توازي بين ما حدث بين الإسلام وبين المسلمين من فجوة، وبين استمرار الاشعاع الحضاري الإسلامي لقرون مديدة من بعد ظهور هذه الفجوة، فقد غلبت على الحركة الإسلامية نظرة أكثر حدية وأحادية، ليس بمستطاعها الإقرار منهجيا بهذا الاشعاع الحضاري التالي على حصول الفجوة بين إسلام المسلمين التاريخي وبين الإسلام الأصلي الصحيح.
يصْعُب ايجاز تاريخ نصف القرن الأخير من الإسلام السياسي بمقولة أو اثنتين، لكن «الإحباط من بعد توقد» من العناوين الممكنة لهذه التجربة. رهن الإشعاع الحضاري للإسلام التاريخي بصحة التزامه بالإسلام الصحيح، ضعف قدرة الحركة الإسلامية على ابتداع «طرح حضاري» ينظر الى مشكلات الراهن بمعية التاريخ الطويل الأمد، وليس فقط بمعيار نموذج محدود في الزمن والمكان والتغطية التاريخية.
بالتوازي، اصطدمت التجربة الحركية المرة تلو المرة بظهورها خالية الوفاض أمام مفهوم الدولة. فقد «أعيدت أسلمة» المجتمعات الإسلامية «صحويا» على أوسع نحو، وتداخل توسع مجتمع الاستهلاك مع نوبات من التزمت والتطير وتسابق على التحريم والتنجيس والتكفير، إنما ترنحت كل محاولة «لإعادة أسلمة الدولة» بالمنظار الإحيائي للعصر الذهبي النموذجي.
يرتبط ذلك الى حد كبير بكون «الدولة المؤمنة» في مقال الإسلاميين بمثابة تأليف بين بعدين. الأول هو نطاق «المدينة – الدولة» كما يصنع وحدتها التشريع المنزل والنبي المرسل. والثاني هو «الإمبراطورية الكونية» المتحفزة للتمدد في كل أرجاء المسكونة.
يمكن القول إن الإسلام السياسي، أو الحركي، دخل في العشرية الأخيرة في مرحلة متقدمة من التشوش والإحباط
ما بين المدينة – الدولة وما بين الدولة – الإمبراطورية، بقيت الدولة – الترابية، البيروقراطية – المدسترة، الدولة ذات المنشأ الكولونيالي في معظم ديار المسلمين، بمثابة الورطة، يصعب على الإسلاميين رؤيتها إلا بتجيير هذه الرؤية لنموذج «المدينة» الأولى والمثلى، أو لنموذج «الإمبراطورية» العظمى.
والحال أن «الدولة» الحديثة ليست مجرد حالة عابر أو انتقالية أو ضائعة بين ما للمدينة المكثفة وبين ما للإمبراطورية الفسيحة.
في إيران فقط، أمكن للإسلاميين الحركيين الانتصار مطولا، لأن الدولة الترابية فيها ذات باع إمبراطوري، ولأن قراءة تاريخ التشيّع كتاريخ مجموعة من «المدن الحوزوية» (النجف، قم، مشهد) أشبع أيضا حاجة الإسلاميين لهذه الفكرة عن المدينة – الإطار المرجعي للإحالات.
وتركيا، قد يسأل سائل؟ جرت فيها إعادة أسلمة للدولة العلمانية في مقابل علمنة جزئية للحركة الإسلامية نفسها. جرى التخفف من حدة القطيعة التي أحدثها مصطفى كمال بين الجمهورية والماضي العثماني، لكن من دون الرجوع عن المفاصل الأساسية لهذه القطيعة، متمثلة بالتبني الناجز لفكرة الدولة الأمة. إنما لم يعد ممكنا أن يبقى هذا النموذج باردا، جلفا، حيال إيمانيات وعوائد الشرائح الأوسع من الشعب التركي. «منطق الدولة» الدولة – الأمة التركية، لم يجد نفسه متعثرا، تائها، في المفترق بين النوستالجيا الى المدينة النبوية الأصلية، وبين النوستالجيا الى إمبراطورية «الفتوحات» المستدامة.
بإزاء نموذجَي إيران (إسلام سياسي يجد ضالته في السمة الإمبراطورية للدولة القاجارية – البهلوية نفسها، وقوة حضور المدينة الحوزوية في المخيال الإمامي) وتركيا (ما بعد إسلام سياسي، يتبنى بالكامل منطق الدولة الأمة ويعمل على مصالحتها مع دين الناس، ومع ماضيها هي كدولة) فقد ظهر التخبط عند الإسلاميين العرب والجنوب أسيويين، فكرا وممارسة، أكثر ما يكون، عندما تعلق الأمر بإثارة موضوعة الدولة الحديثة. وجدوا أنفسهم يحتمون منها بنموذجَي المدينة المثالية والإمبراطورية الكونية، وكلما تعاملوا مع الدولة على أنها مدخل الى هذين النموذجين صدمهم الواقع بكثير من القساوة.
ولئن كان النموذج المرير لهذه القساوة هو مصر، وحدية التخيير فيها بين «مصر مجتمعا عسكريا» وبين «أسلمة المجتمع والدولة» وصولا الى الانسداد الحالي، فقد جاء النموذج الباكستاني أكثر هشاشة ومراوغة في آن. فمشروع بناء كيان وطني لمسلمي شبه القارة انطلق بداية على أسس شبه علمانية، بمعنى الإدغام بين أن يكون للمسلمين في شبه القارة وطن لا تهمشهم فيه أكثرية هندوسية ناقمة على تاريخ التسلطن الإسلامي في الهند، وبين أن تكون هذه الدولة المرجوة حديثة وتحديثية، تتحول فيها رابطة الانتماء الديني بين المسلمين الى رابطة انتماء قومي.
هذا في مقابل تجربة هندية رفضت في مرحلتها الاستقلالية ربط الدولة بالهندوسية لا كرابطة دين ولا كرابطة أقوامية (اثنية). ولئن راهنت وطنية حزب المؤتمر، حزب سلالة نهرو وذريته، على السمة الانسيابية لهذه الهيمنة العددية الهندوسية، مجتنبة الخطاب الإقصائي النافر بإزاء المسلمين، فقد آلت الغلبة من ثم، وبالتدريج، لليمين القومي الديني، الجاحد بالتاريخ التمازجي والتعددي للبلاد، والمتطلع لإعادة قولبة الهندوسية نفسها كرباط ديني وقومي في آن، كديانة قومية وكديانة عالمية (مع اتساع رقعة الدياسبورا الهندوسية) ما ارتبط على نحو مفارق، بتوتر لا يكاد يفتر حتى يزيد اشتدادا بإزاء المسلمين وسواهم. هذا في مقابل اقتراح صيغة «أكثر ديمقراطية» للكل الهندوسي، بما يتيح تليين الحواجز التمييزية الصارمة بين الطبقات الوراثية الدينية (الكاست) لا سيما وأن البراهمة والطبقات العليا في المجتمع الهندوسي هم أقلية من مجموع عدد السكان ما لم يحسن الوصل بينهم وبين الطبقات المصنفة كدنيا في هذا المجتمع.
وبالنتيجة، وتحت وطأة المواجهة بين الهند وباكستان، وجدت الأخيرة نفسها تندفع أكثر فأكثر لإعادة أسلمة فكرتها، ضمن علاقة متأرجحة بين العسكر والإسلاميين فيها، إنما لا مكان في إطارها للاستئصالية على الطريقة الجزائرية أو المصرية.
لم تعد ثنائية عسكر وإسلاميين كافية لاستقراء كامل المشهد، إنما كل شيء في باكستان محكوم بانعدام التناسب بينها وبين القوة الهندية الصاعدة، إلا على صعيد السلاح النووي. مثلما أن اشتداد الضغط على مسلمي الهند من طرف الحزب الأصولي الهندوسي الحاكم، بهاراتيا جاناثا، المهجوس هو الآخر بالكماشة الصينية الباكستانية، يصعب أن يدير له الباكستانيون ظهرهم.
ينقسم مسلمو القارة الهندية بين باكستان وبنغلاديش والهند نفسها، ومجموعهم يساوي أقل قليلا من نصف مسلمي العالم، وهم بالتالي معنيون جميعا بمسار التحول في الهند أكثر فأكثر باتجاه تجذر «الهندوتفا» الأصولية فيها.
تشتد في الهند مصلحة المسلمين في الدفاع عن الدولة العلمانية بإزاء الهجمة القومية الدينية الهندوسية، فهل يمكن أن يبقى ذلك بلا أثر بين المسلمين خارج الهند؟ حاجة مسلمي الهند للتضامن الإسلامي العالمي معهم، مقدار حاجتهم للدولة العلمانية في بلادهم يحتمون بها من إقصاء وتهميش! في المقابل، كيف نفهم، في الهند وخارجها، انتعاش «الهندوسية السياسية» في زمن تخبط «الإسلام السياسي» بشكل عام؟ هل نبتة «الإحياء الديني» غُرست بشكل حذق هنا، وبشكل متهافت هناك؟
وسوم: العدد 1053