تهافت الإعلام الفرنسي
عالم الميديا في فرنسا يعاني حالة من تخلف رهيب، ليس بسبب عدم امتلاكه لآخر طراز وسائل ووسائط التواصل والإعلام وصناعة الرأي، بل بسبب انحسار مجال التعبير الذي يتعامل مع الحقيقة ولا يروم الاقتراب منها في أقل تقدير. لا يزال راسب الاستعمار يحرك ويعْتَمل في عمق المؤسسة الإعلامية الفرنسية رغم تقدم علوم الإعلام والاتصال في هذا البلد. فرنسا على ما يظهره المشهد الإعلامي اليوم تقدم وجها مشوها تماما لصورتها الديمقراطية ونضالها الطويل لمعرفة الحق والذود عنه منذ أزمنة بعيدة، عصر الإمبراطورية والاستعمار والإمبريالية، وما بعدها، ونقصد بطبيعة الحال الفرنسيين الذين تصدوا للظلم والإجحاف الرأسمالي الذي أفضى إلى الاستعمار وويلاته على العالم كله وليس على اليهود فحسب.
عندما يقف الإعلام الفرنسي الرسمي منه والتقليدي إلى جانب الدولة الإسرائيلية فهو يتنكر لتاريخ آخر مضاد لاستعمار ساعده على التخلص من الهيمنة والسيطرة المنافية للعقل الحديث وأصول الأخلاق التي تحرّم الظلم والإكراه والكراهية والاحتقار. كان هناك فعلا خطا فرنسياً يتحلى بجرأة القلب والروح والإنسانية من أجل التَّصدي لكل ما هو فاسد في الفئة الإعلامية التي تستحوذ لنفسها المشهد وتفرضه على الجميع وتفترض فيه مجتمع المشهد على ما كان يرى المفكر الفرنسي الراحل جان بودريارد. حقيقة، ما يجري اليوم في الإعلام الفرنسي غريب وغير مفهوم تماما، لأنه يقدم حالة الحرب إلى جانب دولة استعمارية وضد العرب والمسلمين في فلسطين، بل ضد أهم الجهات والشخصيات التي صنعت مجد تاريخ فرنسا نفسه. من أين حلّت هذه النازلة على فرنسا وصارت تدافع عن بلد يقال إنه يمتلك أكبر ترسانة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط، فضلا على نظامه الديمقراطي وسط وحوش ضارية وحكّام سلطويين !!؟
دفاع الإعلامي الفرنسي القريب من قصر الإليزيه، خاصة منه الرسمي والتقليدي عن الدولة العبرية، يفصح بأكثر من معنى أن إسرائيل ليس دولة اليهود كما يروج، بل دولة القوى العظمى المستنفذة التي لمّا تزل تشعر بذنب الهولوكوست وقرون معاداتها لليهود. فهذا الدَّيْن هو الذي يحرك ضمائر وعقول الغرب وخاصة في فرنسا التي دافعت عن اليهود وأخذت بيدهم لمّا صنعت منهم مواطنين لها على ما حدث مع مرسوم أدولف كريميه 1870. هذا ما يمكن أن نفهمه ونتفهمه، لكن أن تدافع عن كيان صار دولة في منطقة بعيدة عن فرنسا ومستقلة عنها استقلالا تاما وصارت قوة محتلة ضارية ومشروعا سياسيا لا يكف عن التوسع والاستحواذ وقضم أراضي الغير بدون وجه حق ولا عدالة، فهذا الذي لا يمكن فهمه حتى ولو بالغ وتمادى الإعلام الصهيوني في فرنسا على طمسه وتزييفه وإسدال ستار التقية عليه.
يعاني الإعلام الفرنسي حالة من التخلف لأنه بقي يعاند ويصر على الانتماء إلى عصر استعماري بغيض لا يمكن أن يعود تحت أي طائل وحال، لأن فرنسا مرّت على أكبر تجربة لها مع الاستعمار ذاته في أشكاله ومضامينه ومفرداته
يعاني الإعلام الفرنسي حالة من التخلف لأنه بقي يعاند ويصر على الانتماء إلى عصر استعماري بغيض لا يمكن أن يعود تحت أي طائل وحال، لأن فرنسا مرّت على أكبر تجربة لها مع الاستعمار ذاته في أشكاله ومضامينه ومفرداته. فعندما يحرص عرّاب الإعلام الثقيل في فرنسا اليوم على ترتيب البلاتوهات وبرامج الحوار والنقاش على خلفية الدفاع عن إسرائيل والتنديد بالعنف والإرهاب هو يعيد تكرار حقيقة تاريخية كان أحوج به أن يتجاوزها إلى ما هو أخلاقي وإنساني يراعي الإنصاف والموضوعية. فدولة إسرائيل بعيدة كل البعد عن فرنسا ولا يمكن إطلاقا أن تدرج ضمن سياستها الداخلية على ما نحضر ونشاهد، لأن كل شيء يفرق بينهما وإن بقي رابط باهت جدّا بينهما هوما تصنعه الميليشيا الصهيونية في الإعلام الرسمي الفرنسي وتنتصر بشكل مفضوح مع دولة الإرهاب الأولى والوحيدة في العالم.
ما يباعد بين فرنسا الدولة والتاريخ والمؤسسات وبين دولة إسرائيل هو أن فرنسا سعت إلى تصفية الاستعمار من تاريخيها عبر تعاملها مع نتائج وتداعياتها حرب استقلال الجزائر وأعادت المعاني الصحيحة والسليمة إلى المفردات التي كانت تتعامل بها مع الثوار والمناضلين وسكان الجزائر. فلم يعد السكان مجرد أهالي بل شعب، كما لم تعد جبهة التحرير الوطني تنظيما إرهابيا بل حركة استقلال، ولا الثوار قُطَّاعاّ للطرق، فمنذ ثورة أو حرب الجزائر لم يعد لمفردة الإرهاب أي معنى لا قانوني ولا سياسي لأنه جاء في سياق استعماري استيطاني.. لا بل فقد معناه كله بعد الحرب العالمية الثانية التي أرادت أن تؤكد معاني السلام والأمن والعدالة في كافة ربوع العالم.
وعليه، أو هكذا يجب أن نحلل ما يجري في الإعلام الفرنسي اليوم مع دولة إسرائيل، أن هذه الأخيرة استبطنت واستوعبت في أحشاء مؤسساتها وأجهزتها العسكرية والأمنية وحتى السياسية ظاهرة الإرهاب، واحتكرته لنفسها، تتولّاه وترعاه عن كثب عندما تريد أن تستولي على أراضي وتقيم «مستوطنات» خلف وبمعية المستوطنين. ليس هناك من «مواطن» و«مستوطن» إلا وخلفه وأمامه وبجنبه أعوان أمن مسلحين من أعلى الرأس إلى أخمص القدم.. أليس كل هذا مشهدا نموذجيا واضحا لدولة الإرهاب بالمعنى الحقيقي والدلالة القانونية والوصف الصحيح.. ولعلّ هذا ما جعل القوى الكبرى ومنهم فرنسا تتنكر لتعريف دولي لمعنى الإرهاب كأفضل سبيل إلى تفاديه ومعاقبة مرتكبيه.
الإرهاب كلمة متداولة على سبيل الافتراض الإعلامي وقد أوضحته المشاهد التي تجري في استوديوهات الإعلام الفرنسي الرسمي والتقليدي الذي يزال معلقا بكثير من الحنين على عهد استعماري ولّى ولم يعد من العصر الفائق الذي أبرز مظاهره التقدم الرهيب في مسائل الإعلام والاتصال خاصة في شبكة التواصل الاجتماعي والصحافة الحرة والمستقلة. طريقة تعامل الإعلام الفرنسي مع هذه كلمة الإرهاب يرتد عليها الوصف ليصبح الإعلام الفرنسي نفسه إعلاما صهيونيا يواصل حالة استعمارية مع السياسة الإرهابية في إسرائيل. فقد غاب عن عُراّب ومديري وممولي هذا الإعلام الصهيوني، أن إسرائيل دولة إرهابية بامتياز لا يضاهيها أحد من الدول والأمم والشعوب في العالم. وعندما يدافعون عنها فإن وقعه وأثره ومظاهره في وسائل التواصل الاجتماعي يعني الدفاع عن الإرهاب. مما يجعلنا نحضر لحالة إعلامية جديدة وهي : الكلمة في وسائل الإعلام الصهيوني والمعنى في وسائل التواصل الاجتماعي.
وهذا صحيح إلى أبعد حد عندما نرى ظاهرة تقلص حرية التعبير في القنوات الرسمية واتساع فضاء الرأي والنقد في الإعلام غير الرسمي.. إلى حد التساؤل: ماذا بقي من فرنسا الرسمية.
وسوم: العدد 1061