من تشرشل إلى ستارمر: فلسطين ومِذْوَد بريطانيا العنصري
تقتضي حقوق اتصال الحاضر بالماضي في عرف دروس التاريخ، ومثلها واجبات شتى سياسية ومعرفية وأخلاقية، أن توضع في سياقات ترابط جدلية مواقفُ الساسة البريطانيين الراهنة من حرب الإبادة الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني عموماً، وأطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة خصوصاً؛ مع سوابق لها أقدم عهداً، ولكن أشدّ تبياناً لمكوّناتها التأسيسية، العابرة لأي نمط من التمايزات بين حزبَيْ “العمال” و”المحافظين”. وذلك لأنها في المقام الأوّل مناهج عليا كولونيالية، جيو – سياسية واجتماعية – اقتصادية، وثقافية أيضاً لا تخلو من أفانين عنصرية صريحة أو مبطنة.
ليس عبثاً، في ضوء هذه المعادلة البسيطة والمشبعة بالحقّ والواجب معاً، أن تُربط المواقف من جرائم الحرب الإسرائيلية الراهنة عند أمثال ريشي سوناك رئيس الحكومة وزعيم “المحافظين”، وأمثال كير ستارمر قائد المعارضة وزعيم “العمال”؛ مع مواقف من القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم، عند أمثال دافيد لويد جورج وآرثر جيمس بلفور وهربرت صمويل، وأبرزهم بالطبع كان ونستون تشرشل (1874 ـ 1965).
ومنذ بواكير التورط البريطاني الرسمي مع الصهيونية، مؤسسات ومجموعات ضغط وفلسفة، كان تشرشل وزير المستعمرات البريطانية وصادق، بوقاحة أكثر صلافة، على أطروحة رئيس الحكومة لويد جورج؛ القائلة بأن استدراج الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية يقتضي التعاون مع مجموعات الضغط الصهيونية، ذات التأثير الكبير في أمريكا. وخلال إحدى مداولات مجموعة التحقيق الملكية البريطانية (لجنة وليام بيل) حول تقسيم فلسطين، ضاق تشرشل ذرعاً بأسئلة بعض الحاضرين حول حقوق العرب الفلسطينيين، فكان أنّ التاريخ حفظ لنا واحدة من أكثر تصريحاته بشاعة وانحطاطاً وعنصرية.
قال تشرشل: “أنا لا أقرّ بأنّ الكلب في المذود يمتلك الحقّ الختامي في المذود، رغم أنه قد يكون جثم هناك فترة طويلة للغاية”؛ وأردف بأنه ينفي “وقوع ظلم كبير على هنود أمريكا الحمر، أو على السكان السود في أستراليا”، وذلك خلال عمليات استبدالهم بـ”عرق أرفع درجة”. وبالطبع، كان تشرشل يحيل إلى إحدى حكايات إيسوب، التي تروي رقاد كلب في مذود ثمّ العواء على الثور القادم لأكل العلف؛ من دون أن يعبأ السياسي الذي سيصبح رئيس الحكومة، الذي سيفوز سنة 1953 بجائزة نوبل (للأدب!) بأنّ هذه الإحالة لا تضيف الإهانة على جراح الفلسطينيين فحسب، بل تذهب بالتعبير العنصري إلى التمثيلات الحيوانية الأشدّ ابتذالاً.
ولا يصحّ أن تُغفل أيضاً، هنا تحديداً، مسوّغات تشرشل في استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّ أبناء العراق؛ عرباً (تحالف العشائر) وكرداً (حركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في لواء السليمانية)، على حدّ سواء. وكان حريصاً، بصفة خاصة، على استخدام الأسلحة الكيماوية “ضدّ العرب العصاة، من باب التجريب” العلمي والتكنولوجي للصناعات الحربية البريطانية، معتبراً أنّ الاعتراضات على استخدام هذه الأسلحة “غير عقلانية”؛ مضيفاً تلك الجملة الأشهر بدورها: “أنا أؤيد بقوّة استخدام الغاز السامّ ضدّ القبائل غير المتمدنة، وذلك كي يدبّ الذعر في نفوسهم”.
كذلك باتت الآن معروفة تلك المذكّرة السرّية، التي تضمنت فقرات مسهبة في تبرير استخدام غاز الخردل، والتهكم على أصحاب المواعظ الأخلاقية المناهضة لتلك الأسلحة. والتاريخ يسجّل تلك المقارنة التي عقدها تشرشل بين سلاح غاز الخردل، وتبدّل أطوال تنوّرة المرأة: “إنه لمن السخف اعتماد المبدأ الأخلاقي في هذا الموضوع، حين نعرف أنّ الكلّ استخدم هذه الأسلحة في الحرب الأخيرة دون كلمة شكوى من وعّاظ الكنيسة. ومن جانب آخر، كان قصف المدن المفتوحة محرّماً في الحرب الأخيرة، ولكنّ الكلّ يمارسه اليوم وكأنه أمر مألوف. إنها ببساطة مسألة موضة تتبدّل، بين القصير والطويل، في تنّورة المرأة”!.
مذود العنصرية البريطانية، من جانبه، لا يتبدّل إلا كي يُلطّخ بقبائح أكثر، وتُراق على جوانبه دماء عشرات الآلاف من الأبرياء.
وسوم: العدد 1062