مفهوم حقوق الإنسان: من المبدأ إلى آلية لابتزاز الشعوب المستضعفة وحكامها
"يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء." هذا نصّ المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فيما تنص المادة الثانية منه على ما يلي: "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته." مما يفهم منها على أنها ضامنة للمساواة المنصوص عليها في المادة الأولى.
فإذا كنا لا نختلف من حيث المبدأ مع مضمون المادتين، فإن المنطق يقتضي ألا يتم فرض رؤية واحدة ووحيدة لتعميم تجسيدهما على أرض الواقع بالنسبة لجميع الشعوب والأمم، وإنما يتعين، وهذا من صميم حقوق الإنسان، استحضار تباين المرجعيات التي تستند إليها، مما يستلزم احترام الخصوصيات والثوابت التي تتميز بها الأمم عن بعضها البعض، وهو ما ينتج عنه بالضرورة اختلاف في الأحكام المرتبطة بعدد من الحقوق والحريات التي يتضمنها الإعلان، فالأحكام المتعلقة بمفهوم الحريات الفردية على سبيل المثال لا الحصر، تختلف بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الغربية، بل حتى ضمن المرجعية الغربية نفسها، بحيث يبدو الاختلاف واضحا، قد يصل إلى حد التناقض، كما هو الشأن بالنسبة للعلاقات الجنسية غير الشرعية، من قبيل الزنا والشذوذ الجنسي... ذلك أن الإسلام يُحرمها تحريما قطعيا يُحيل بالضرورة على تجريمها، بينما تُعتبر في المرجعية الغربية، المتبناة من قبل الأمم المتحدة، حق من حقوق الإنسان الأساسية. وينطبق هذا، في حدود معينة، على مفهوم الحق في الحياة. فإذا كانت المرجعيتان تتفقان من حيث المبدأ على كونية هذا الحق، فإن تعميم الاستفادة منه - كما تطالب بذلك الأمم المتحدة من خلال الحرص على إلغاء عقوبة الإعدام - حتى على الذين يَسلبونه من غيرهم باقترافهم للقتل العمد، يقابله في الشريعة الإسلامية استثناء هؤلاء منه، في حالة التثبت من وجود قرائن القتل العمد، عملا بمبدأ القصاص، علما أن إمكانية استرداده تبقى رهينة بعفوٍ من أولياء القتيل، ليصبح بذلك في حِلٍّ من أية تبعات، على خلاف ما هو معمول به في المرجعية الغربية، بحيث غالبا ما يُستعاض عن الحكم بالإعدام بالحكم بالمؤبد، الذي يَستتبِع مجموعة من الإشكالات، منها ما يتعلق بطبيعة "الحياة" التي سيحياها السجين بعد استفادته من هذا "الحق"، ومنها ما يتعلق بتحميل المجتمع مصاريف السَّجْن من مثل الإنفاق المتعلق بمأكله ومشربه، وملبسه، وحراسته بل وحتى الترفيه عليه، بالإضافة إلى ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية ثأر عائلة القتيل بعائلة القاتل أو على الأقل توتر العلاقات بينهما... وعلى الرغم من وجود كل هذا، فإن الأمم المتحدة ترفض كل قراءة لمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تُنتج تصورا يخالف تصورها الوحيد والأوحد، وتضرب بها عرض الحائط، خاصة إذا تعلق الأمر بالبلدان والشعوب المغلوبة على أمرها، والإسلامية منها على الخصوص. وفي هذا السياق لفت انتباهي مقال صدر بجريدة هسبريس الإلكترونية بتاريخ 28 فبراير 2024 تحت عنوان: الأمم المتحدة تطالب "طالبان" بإلغاء الإعدام. ومما جاء فيه أن المتحدث باسم مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أصدر بيانا قال فيه: "لقد شعرنا بالجزع إزاء عمليات الإعدام العلنية لثلاثة أشخاص في الملاعب في أفغانستان خلال الأسبوع الماضي" وأضاف: "أن عمليات الإعدام العلنية هي شكل من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة"، كما "أن عمليات الإعدام هذه تعسفية بحكم طبيعتها، وتتعارض مع الحق في الحياة الذي يحميه الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وقعت عليه أفغانستان".
ودون الدخول في مناقشة مدى موافقة هذه الأحكام للشريعة الإسلامية من عدمها، فإنه من المعلوم لدى العام والخاص أن المرجعية التي يُستَنَدُ إليها في أفغانستان، تختلف مبدئيا عن المرجعية التي يَنطلق منها المتحدث باسم مكتب حقوق الإنسان، ومن ثم، فانطلاقا من منطوق المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يبدو أن بيان المتحدث منطقي ومنسجم مع هذه المادة، لكن سرعان ما يفقد هذا البيان منطقه وانسجامه، إلى الحد الذي يثير الاستغراب، إن لم أقل الإشفاق على صاحبه، بسبب تلك الرأفة الزائدة التي عبر عنها بشعوره "بالجزع إزاء عمليات الإعدام العلنية واصفا إياها بالعقوبة القاسية واللاإنسانية والمهينة والتعسفية بحكم طبيعتها"، في الوقت الذي ينتفي لديه هذا الشعور، وهو يُعاين إبادة مئات الأفراد يوميا في فلسطين عموما وفي غزة خصوصا. وإذا سلمنا جدلا بأن شعور صاحب البيان جاء نتيجة التزامه بمضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإننا نسأله عن السبب الذي جعله يُخل بالتزامه هذا إزاء إعدام ما يفوق 30000 فلسطيني، جلهم أطفالا ونساء وشيوخا، دون اقترافهم لأي جريمة سوى أنهم تشبثوا بأرضهم. ألم يكن من باب التعمية والنفاق على الأقل، على غرار ما قام به الأمين العام للأمم المتحدة، مطالبة إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة بوقف عملية الإبادة، أم أن تطبيق حكم الإعدام في حق 3 أشخاص ممن "اقترفوا ما يستلزمه حسب التشريع الجاري به العمل في هذا البلد"، أخطر وأعظم من الإبادة الجماعية لأهل غزة؟ ولنفترض جدلا أن أهل غزة كانوا ضحية تواجد حماس بين ظهرانيهم -وهذا غير صحيح بحكم التقتيل اليومي خارج القطاع-فهل سيجرؤ المتحدث باسم مكتب حقوق الإنسان بالإفصاح عن شعوره إزاء إصدار محكمة جنايات أمن الدولة بمصر يوم الإثنين 4 مارس 2024، حكما بالإعدام شنقا على عدد كبير -8 حسب أحد المواقع الإلكترونية-من المنتمين فعلا أو تلفيقا، لجماعة الإخوان المسلمين باعتبارها "جماعة إرهابية"؟ أين إذن هي المساوات التي تنص عليها المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ وأين الضمانات التي تقدمها المادة الثانية منه؟ عندما لا يلتزم بها مسؤولو الأمم المتحدة أنفسهم، عفوا، يلتزمون بها لكن شريطة أن تكون في خدمة الصهاينة ومن يدور في فلكهم.
إن هذا النوع من الممارسات يُبين بالملموس، أن شعار تساوي الناس في الكرامة والحقوق، والتعامل بالإخاء بينهم لا يعدو أن يكون حبرا على ورق، بل ويزيل القناع على حقيقة منظمة الأمم المتحدة، التي طالما استغفلت واستحمرت الشعوب المغلوبة على أمرها، باعتماد شعارات براقة، ومصطلحات رنانة، من قبيل حقوق الإنسان الكونية. ومما لا شك فيه أن حكام هذه الشعوب كانوا على علم بحقيقة هذه الشعارات وحمولتها منذ استحداثها، لكنهم أبوا إلا أن يساهموا في عدم تعريفهم بحقيقتها إما خوفا أو تواطأ، إلى أن جاءت وسائل التواصل الاجتماعي، التي عرت المستور وكشفت الحقيقة المرة، ووضعت هؤلاء الحكام في وضعية لا يحسدون عليها إزاء مواطنيهم وإزاء ضمائرهم.
في الختام يبدو أن الأمم المتحدة لا تتحد إلا على ما تُمليه الصهيونية العالمية، وإذا ما أُسندت لبعض الدول مسرحية معارضة قرار من قراراتها، فستجد فيتو الولايات المتحدة أو من ينوب عنها دونها، وبالتالي فمفهوم حقوق الإنسان لم يعد مبدأ يشمل كل بني البشر، وإنما يُستثنى منه كل من لم تُمنح له صفة الإنسان، على غرار أهل غزة الذين تم تصنيفهم في خانة الحيوان، لتبقى إمكانية الابتزاز مُتاحة ضد كل من سولت له نفسه التشبث بمرجعيته وثوابته في ممارسة حريته وحقه في الحياة.
وسوم: العدد 1072