العلمانيون يستهدفون الإسلام استهدافا مبطنا ويموهون عليه بعداء يصرّحون به لكل من يدافع عنه
من المعلوم أن التيار العلماني العربي ، وهو ذيل للعلمانية الغربية في الوطن العربي ، قد نشط بشكل ملحوظ مباشرة بعد الإجهازعلى ثورات الربيع العربي وما تمخض عنها من تحولات سياسية واجتماعية وثقافية . وكان الانقلاب العسكري الدموي في مصر هو بداية تنمّر هذا التيار العلماني ، ثم تلته انقلابات أخرى لا تقل دموية عنه كما وقع في سوريا ، و ليبيا ، واليمن ، والسودان ، والعراق ، فضلا عن حيل مسرحيات انتخابية سدت في واقع الأمر مسد تلك الانقلابات الدموية، كما حدث في تونس على سبيل المثال . وظلت دول الخليج بمنأى عن ثورات الربيع ، أو لنقل عاجلتها الأنظمة هناك بخنقها في مهدها قبل أن يبلغ حجمها ما بلغه في باقي الأقطار العربية .
ولقد كان الإجهاز على ثورات الربيع العربي مخططا له من طرف العلمانية الغربية التي باركته وأيدته باطنا ، وتظاهرت نفاقا بالأسف على التجارب الديمقراطية التي تمخضت عنها . و لقد تورطت دول خليجية في هذا الإجهاز تخطيطا ،وتمويلا ، ودعاية ، بتعليمات أو بأوامر غربية علمانية مباشرة أوعزت إلى الأنظمة العربية وجوب احتضان التيارات العلمانية الناشئة فيها ، وتعبيد كل السبل لها لتنشط بقوة على عدة أصعدة وفي شتى المجالات سياسيا، واجتماعيا ،وثقافيا ، وتربويا ، وإعلاميا .
وفي هذا الظرف بالذات بدأ الأخطبوط الصهيوني يمد أذرعه أو مجساته في طول البلاد العربية وعرضها ، وهو كيان علماني تابع للكيانات العلمانية الغربية ، التي من أجل ضمان بقائه في قلب الوطن العربية، أوعزت إلى الأنظمة العربية بالإجهاز على كل تجربة ديمقراطية من شأنها أن توصل إلى مراكز صنع القرار أحزابا فيه رائحة الإسلام الذي ينعت عندها بالإسلام بالسياسي ، ويتهم بالإرهاب والتطرف ، والعدوانية ، والكراهية ...
و لقد بدأ تمدد الأخطبوط الصهيوني مباشرة بعد وأد التجارب الديمقراطية الفتية في مهدها ببعض البلاد العربية عن طريق ما سمي صفقة القرن ، وبالبيت الإبراهيمي ، وبالشرق الأوسط الجديد ... وهو ما ترتبت عنه حركة تطبيع الأنظمة العربية معه.
وتزامنا مع هذه الحركة، انطلقت أنشطة التيارات العلمانية العربية التابعة للعلمانية الغربية أو لنقل هي ذيولها في كل المجالات مدعومة بإعلام قوي ينفق عليه بسخاء ،وقد صار مسيطرا في كل الوطن العربي .
ومن أجل التمويه على تبعية هذه التيارات في البلاد العربية للعلمانية الغربية المعادية للإسلام ، ادعى العلمانيون العرب " التمسلم " ، وصرنا أمام علمانيات" متمسلمة " تواجه بالوكالة عن العلمانية الغربية كل من يدافع عن الإسلام أفرادا أو جماعات أو جمعيات أو هيئات علمية ، وتتهم بأنها " إسلاموية " ، وهي لفظة تطلق تحديدا على ما تسمّونه إسلاما سياسيا ، لأن قناعتهم المتمسلمة لا تجيز إطلاقا وجود السياسة في الإسلام كما تريد ذلك العلمانية الغربية وتفرضه فرضا
وتحت غطاء " التمسلم " وبالمناسبة هي لفظة على وزن " تفعّل " التي تعني التكلف ، حشر العلمانيون في الوطن العربي أنوفهم في أمور الإسلام عقائد، وعيادات ، ومعاملات ، وطلعوا علينا بآراء ، وأفكار وصفوها بأنها تجديد لهذا الدين الذي استبد به لقرون تيار العلماء والفقهاء والدعاة المتزمتين على حد قولهم أو القروسطيين على حد وصفهم لهم . وبدأنا نسمع بمن يطعن في أئمة الحديث ، وفي مسانيدهم أو صحاحهم . كما بدأنا نسمع بفصيل يسمون قرآنيين يقصون السنة جملة وتفصيلا . وبدأنا نسمع أيضا بالحداثة التي تقصي الدين من الحياة ، وتحديدا دين الإسلام . وبدأنا نسمع بالأشكال الجديدة للحياة الاجتماعية على غرار الحياة في المجتمعات العلمانية الغربية , وبدأنا نسمع بالشكل الجديد للأسرة المتحررة من التقاليد ومن الدين والتي لم تعد هي النواة الصلبة للمجتمعات الإسلامية ، ومن ثم بدأنا نسمع بعلاقات بديلة عن العلاقة الزوجية ، وهي علاقات جنسية جديدة بين الأفراد ذكورا وإناثا من قبيل الرضائية والمثلية . وبدأنا نسمع بفتاوى علمانية وبتفاسيرها للنصوص القرآنية مع المطالبة بتعطيل وإلغاء التفاسير الموروثة ، وبتجديد الفهوم لهاعلى ضوء التصورات والقناعات العلمانية المستوردة من الغرب المادي ... وسمعنا الشيء الكثير ، وصرنا نسمع مع كل يوم جديد الجديد من العلمانيين المتمسلمين الذين لا يكلفهم تمسلمهم مجرد ترديد عبارة " كلنا مسلمون ، وليس لأحد الحق في أن يزايد علينا في ذلك " . ولم تعد عندهم لعبارة " الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل " معنى أو وجود ، بل صارت العبارة المهيمنة عندهم هي : "الإيمان في القلب والعمل بالتوصيات العلمانية " .
ومما ينكب عليه العلمانيون اليوم عندنا تقديم اقتراحاتهم الخاصة بتجديد مدونة الأسرة ،لأنهم راغبون عن المدونة القرآنية المتضمنة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنها بالنسبة إليهم مدونة عصر مضى وانتهى ، وكأن رسالة الإسلام لم ترسل إلى العالمين كما يصرح القرآن الكريم بذلك، بل هي خاصة بعصر يصفونه بالماضوي أو البائد ، وهو ما ينفي صراحة بل ووقاحة عالمية هذه الرسالة .
ومعلوم أن العلمانيين عندنا، لا يعون أن تمسلمهم الذي هو في حقيقة أمره تكلف للإسلام ليس غير ،لا يمكن أن يكون منطقتهم الرمادية بين الإسلام والعلمانية ، لأن المنطقة الرمادية من المنظور القرآني هي النفاق . وإذا كان تموقع الإنسان العلماني الغربي تموقعا صحيحا لرفضه الصريح والشجاع للدين كعامل مؤثر في حياته المادية الصرفة ، فإن توقع الإنسان العلماني العربي تموقع خطأ وجبان في نفس الوقت ،لأنه يريد الجمع بين نقيضين لا يجتمعان أبدا الدين واللادين . ولا شك أن تمسلم الإنسان العربي ما هو إلا مرحلة عابرة بالنسبة إليه ريثما تتقوى شوكة العلمانية في البلاد العربية ، وحينئذ سيغادر منطقته الرمادية أو نفاقه ، ويلتحق بالعلمانية الغربية كي يعيش متحررا من الدين ومتشبعا بقيمها .
ويحرص العلمانيون المتمسلمون على إدراج قناعاتهم ومطالبهم في وثائق رسمية في بلدانهم العربية ، ويشترطون أن تكون ملزمة ليس لهم وحدهم، بل لغيرهم أو لعموم الناس في مجتمعاتهم ممن ليسوا مع قناعتهم ومطالبهم ، ويردون أكثر من ذلك أن تكون متابعات ومحاسبات لكل من يخالف تعاليمهم العلمانية المسطرة في تلك الوثائق الرسمية ذات الصبغة الإلزامية كإلزامية الدين الإسلامي أو أكثر .
ولا ندري هل ستزداد العلمانية في الوطن العربي تمددا وانتشارا وقوة بعد ثورة طوفان الأقصى أم سيكون هذا الأخير بداية العد العكسي لاضمحلالها خصوصا إذا ما أتم الله تعالى النصر والتمكين لهذا الطوفان المبارك الذي خلق وعيا كبيرا في الوطن العربي، وفي كل ربوع المعمور بوحشية العلمانية الصهيونية و نظيراتها العلمانيات الغربية المتصهينة ، والعلمانيات العربية التابعة لها . ولا شك أن المستقبل القريب سيكشف عن مفاجآت ربما لم تخطر على بال أحد من قبيل أن العالم لا يمكن أن يكون علمانيا كما تريد كل العلمانيات ،بل سيكون كما أراد الله عز وجل له وفق سننه الجارية في خلقه، ولله الأمر من قبل ومن بعد
وسوم: العدد 1074