كَبُر مقتا عند الله أن تُلزِموا غيركم بما لا تَلتزِمون
ما كادت شعوب العالم، التي ضحت بأبنائها لنيل استقلالها، تصدق بإجلاء الاستعمار عن بلدانها، وأنها أصبحت تمتلك حرية اتخاذ قراراتها والتصرف فيها، حتى تبين لها أن تلك الحرية إنما هي حرية ناقصة وشكلية، أكثر منها فعلية، وذلك بسبب الشروط المجحفة التي ساهمت في التوقيع عليها، والقبول بها، مع الأسف، تلك النخب المحسوبة في جزء منها على الفعاليات الوطنية، التي شاركت في مفاوضات "الاستقلال"، كما هو الشأن بالنسبة لمفاوضات سايس بيكو على سبيل المثال، لِتَجِد نفسها مُكبَّلة بقيود استعمار من نوع جديد، لا يَقنَع بالتحكم في مواردها الطبيعية واستنزاف خيراتها، بل أصبح يتطاول عليها في أخص خصوصياتها، ويتدخل إن لم أقُل يفرض عليها نوعَ السياسات التي يتعين نهجها في مجالات حيوية، كالتعليم والصحة والفلاحة... بل وحتى في التعامل مع دينها، الذي يمثل الحصن الأخير الذي تتحصن به، للمحافظة على ثوابتها وخصوصياتها، من خلال إرغام حكامها على التنصيص في دساتيرها على بنودٍ تفسح له مجال التدخل لفرض ما يراه مناسبا لخدمة مصالحه، وما تضمين دساتير جل الدول الإسلامية، إن لم تكن كلها، ضرورة الالتزام بما يسمى المواثيق الدولية، حتى وهي تتناقض تناقضا صارخا مع شعار "الإسلام دين الدولة"، إلا مؤشرا واضحا على أن الاستقلال المُتشَدَّق به استقلالا صوريا لا غير، هذا في الوقت الذي ُيضرب بهذه المواثيق عرض الحائط، كلما كانت لا تخدم مصلحة هذا المستعمِر الذي انبرت مجموعة من المُستلبين، من المحسوبين علينا للدفاع عنه باعتباره المخلِّص لنا من تخلفنا، وهم يعلمون أن خلاص أمةٍ لم يكن، ولن يكون يوما سوى بالاعتماد على النفس، والتمسك بهويتها العقدية وثوابتها الوطنية.
وإذا كان المقال لا يتسع لجرد مختلف التجليات المؤشرة على صورية استقلال شعوب العالم الثالث عموما، والشعوب العربية والإسلامية خصوصا، وأَنها لا زالت لا تملك سلطة اتخاذ قراراتها بنفسها، سأقتصر على بعض الأمثلة المعبرة، التي يمكن أن تنطبق على جل الشعوب، لسبب بسيط هو أن مصدر الإملاءات والقيود ليس سوى مستعمري الأمس الذين يجمعهم، رغم اختلاف جنسياتهم، هدف استبقاء هذه الشعوب في حالة تخلف واستلاب ثقافي، يضمن لهم استدامة هيمنتهم عليها، مستعملين في ذلك كل الآليات، والوسائل ابتداء من الفرنكوفونية والأنكلوفونية والمساعدات الإنسانية... وانتهاء بمنظمة الأمم المتحدة، ومنظومتها:
- المثال الأول يتعلق بعلاقة الهيمنة المزمنة لفرنسا على المغرب، بحيث يُطرح أكثر من أي وقت مضى سؤال مدلول الاستقلال لدى المغاربة، الذين بَذَل البُسطاء من آباءهم الغالي والنفيس لتحقيقه، ليجدوا أنفسهم لا زالوا مُجبرين على التعامل باللغة الفرنسية، في معظم المرافق الحيوية للبلاد، بعد ما يقرب من 70 سنة من حصوله، بل ويزداد الأمر سوءا مع مرور الوقت، خاصة بعد مصادقة البرلمان المغربي على تعميم تدريس اللغة الفرنسية في جميع الأسلاك التعليمية، وقبل ذلك حينما أُلصقت بالمغرب صفة البلد الفرنكفوني، رغما على أنف المغاربة وعلى الضعف الشديد في استعمالها من قبل عامتهم، من جهة، ورغما على أنف الدستور الذي ينص على كون اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد من جهة ثانية. هذا في الوقت الذي لا يقبل الفرنسيون خاصتهم وعامتهم بأن يُنعت بلدهم بالأنكلوفوني، على الرغم من كونهم يُحسنون استعمال اللغة الإنجليزية أكثر مما يحسن عامة المغاربة الفرنسية. وتحضرني بالمناسبة دردشة جرت بيني وبين أحد الشبان الفرنسيين الذي انتُدب "لتأطير" أشغال إحدى الجامعات الصيفية، التي أقيمت بأكاديمية الجهة الشرقية في أواسط التسعينات، حيث قال لي وهو يعتقد أنه يمدحني ما أترجمه بالتالي: "أغبطكم أنتم الفرنكوفونيون لأنكم تتقنون التواصل بالعربية والفرنسية"، وكان ردي هو أنه إذا كان الأمر يتعلق بالتواصل، فإن الفرنسيين هم كذلك يمكن اعتبارهم أنكلوفونيون، على اعتبار أنهم يحسنون التواصل بالإنجليزية، غير أن صاحبي لم يستسغ كلامي، وانتفض قائلا بنرفزة: Non ce n’est pas la même chose.
- المثال الثاني يتعلق بتعامل الغرب العلماني، الذي تلعب فيه فرنسا الدور الأكثر تطرفا مع الشعوب الإسلامية، في شأن الحريات الفردية التي يُتشدق بها على أنها "قيمة كونية"، ذلك أنه في الوقت الذي يتم الضغط فيه بكل الوسائل على هذه الشعوب لتتخلى عن ثوابتها، وقيمها المستمدة من الشريعة الإسلامية، وتُطبِّع مع تلك الممارسات المناقضة للفطرة السليمة، نجدها تستكثر على كل من تُشتَمُّ فيها رائحة الإسلام، وَضْع قطعة قماش فوق رأسها، أو استعمال لباس محتشم للاستحمام سواء في البحر أو في المسابح.
- المثال الثالث يتعلق بتعامل الغرب مع "قيمة الحق في الحياة"، خاصة عندما يُتَحَجَّجُ بها لإلغاء عقوبة الإعدام التي يقيمون لها الدنيا ولا يقعدونها، كلما تعلق الأمر بدولٍ بعينها على الرغم من تنصيص قوانينها عليها، لذلك نجد على سبيل المثال أن تنفيذها أصبح مجمدا في المغرب منذ سنة 1993، وأن وسائل الإعلام الغربية ضجت بالتنديدات إثر تنفيذ الإعدام في حق ثلاثة أشخاص بأفغانستان في غضون شهر فبراير 2024، بحيث على سبيل المثال، أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن ارتياعها إزاء عمليات الإعدام هذه، وصرح الناطق باسم وزارة خارجية الولايات المتحدة ب"أنها دليل آخر على القسوة التي تُظهرها الحكومة الأفغانية تجاه شعبها"، وهو يتناسى، أو لِيُعلن للعالم، وهو الأرجح، أن بلده مُستثنى من عملية إلغاء عقوبة الإعدام، علما أنه تم حسب بعض المصادر، تنفيد 17 عملية إعدام خلال سنة 2023 وحدها، مع الإشارة إلى أنه مِنْ بين الوسائل المستعملة، الخنق بغاز النيتروجين عن طريق حرمان السجين من الأكسجين باستخدام قناعِ وجهٍ متصلٍ بجهاز تنفس، وأسطوانة نيتروجين، مما يسبب في الاختناق، ومع ذلك يصفونه بالموت الرحيم، وهذا دون أن تحرك لا الأمم المتحدة، ولا الجمعيات الحقوقية الدائرة في فلكها ساكنا.
- المسألة الرابعة تتعلق بالعنف ضد النساء، فبمجرد أن تظهر بوادر عنف جسدي، أو يتم اختلاقه، بإدراجه ضمن العنف اللفظي، أو النفسي إلا وتقوم قيامة الغرب، إما بالترهيب أو بالترغيب، على غرار ما قامت به الولايات المتحدة عندما مَنحت جائزة المرأة الشجاعة للمغربية رابحة الحيمر، لا لشيء سوى لأنها استطاعت أن تُثبت نَسب بِنتها لأبيها، لتُمرر من خلالها رسالةً مفادها دفع النساء ليتجرأن على الدين، وعلى القيم الأصيلة للمجتمعات، هذا في الوقت الذي تُغتصب فيه حسب موقع منظمة العفو الدولية 700000 امرأة كل سنة في الولايات المتحدة 14,8 منهن لا يتجاوز سنهن 14 سنة، وما بين 50000 إلى 90000 في فرنسا مع الإشارة إلى أن حالات كثيرة لا يتم التبليغ عنها.
- المسألة الأخرى وليست الأخيرة تهم مفهوم حق الدفاع عن النفس، فإذا كان الغرب في مجمله وعلى رأسه الولايات المتحدة قد هب لمساعدة أوكرانيا للدفاع عن استقلالها ضد الغزو الروسي، وهو أمر يبدو مشروعا، على الرغم من التباس الحيثيات المصاحبة لهذا الغزو، فإن تَجنُّده لمساندة إسرائيل لإبادة أهل غزة كبيرهم وصغيرهم، صحيحهم وسقيمهم، ذكرهم وأنثاهم، ناهيك عن الانتهاكات اليومية لأبسط حقوق الفلسطينيين في باقي الأراضي الفلسطينية، لا لشيء سوى لأن حماس قامت بعملية بُطولية في إطار الدفاع عن النفس، وعن حق الشعب الفلسطيني المغتصب منذ 48، فكيف يمكن أن يُفهم الانحياز للعدو الصهيوني وإدراج جرائمه ضمن حق الدفاع عن النفس؟ مع العلم أنه هو الطرف المغتصِب، ووصف حماس بالمنظمة الإرهابية؟ وهي التي حازت ثقة الشعب الفلسطيني في انتخابات 2006، التي تخوله كامل الشرعية للدفاع عن حقه، قلت كيف يمكن أن يُفهم هذا في غير مقولة "الكفر ملة واحدة" على حد قول أبي حنيفة.
ختاما أقول بأنه آن الأوان إن لم يكن قد فات، أن تستوعب الشعوب الإسلامية، ومعها كل الشعوب المستضعفة، بأن الغرب بتصرفاته هذه قد ضرب بمصداقيته، وبالأخلاق عرض الحائط، وأن تلك "القيم الكونية"، ما هي إلا آلية للاستحمار، والاستغفال، تسهيلا لسلخها من مقومات استقلالها، ومن ثم ترويضها والسيطرة عليها وعلى خيراتها. ولا يبقى أمامها سوى التشمير على السواعد، وشحذ الهِمم لنيل استقلالها الحقيقي، والتحكم في تقرير مصيرها. ولا يفوتني في الأخير أن أذكِّر الغرب وأذنابه، بأن الاجتهاد في إلزام غيرهم بما لا يلتزمون به أمر ممقوت عند الله وعند الناس، وأن عاقبته إلى زوال طال الأمد أمر قَصُر، ولعل الشاعر المتوكل الليثي قد أحسن التعبير عن ذلك في قصيدته التي افتتحها ب:
يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ
ويختتمها ب:
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ
وسوم: العدد 1076