في تقدير الموقف شرعيا وسياسيا !! بين الفتوى الثابتة والفتوى المتغيرة..!!
هذا موضوع أكثر تعقيدا، و أشد خطرا، وأبعد أثرا في واقعنا، ومواقفنا، ورؤيتنا، وصناعة سياساتنا، وسيرورة وصيرورة مشروعنا!!
ولو أردت أن أكتب بحثا عن أركان الصلاة أو الحج أو نصاب الزكاة أو سنن كلٍ ، أو مفسداته؛ فسيسعني. ويسع كل باحث، أن نفتح كتابا من كتب الفقه على مذهب من المذهب، ثم اغترف أو نغترف منه، مع مراعاة بعض المتغيرات…
في الاعتبار السياسي: مكة قبل الفتح كانت دارَ العدو، وبعد الفتح صارت عاصمة الاسلام، التي تكون الصلاة في حرمها بألف صلاة..
دمشق التي افتتحت نصفها حربا ونصفها صلحا، كان لمسجدها أو لكنيسها الأكبر في حكم الشريعة أحكام وصلى المسلمون والنصاري في شطري مسجدها لسنوات معا.
فقه العبادات المحضة من صلاة وصوم وزكاة وحج وكل ما يتعلق به، فقه يكاد يكون سكونيا ثابتا، إلا قليلا، وكذا فقه العلاقات والمعاملات. فالأصل في العقود التراضي. والعقد شريعة المتعاقدين في إطار ما أحل الله..
ثم نعود لنقرر أن فقه تقدير الموقف، على مستوى العلاقات الشرعية والسياسية من القوى والكيانات والدول والأحزاب، وإن كان منضبطا في أصله العام بفقه الولاء الشرعي العام (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)
فإنه يجري عليه بالدرجة الأولى فقه المصالح في الجلب، والمفاسد في الدرء.
ويتعمق هذا الفقه فيه؛ حتى يكون من المسلّم فيه احتمال الحربي الأقل خطرا في مواجهة الأشد خطرا. والأبعد تهديدا..
لقد أضر التلقين المثالي للفقه السياسي الإسلامي كثيرا بجيل المسلمين المعاصر. وأشدد على قولي المعاصر. حيث انتشرت الشعارات الأكثر حماسة..
أفكر بانعكاس شعار: "خذوا الاسلام جملة أو دعوه" أو بشعار "إسلام أو لا إسلام" وأقرن كل ذلك بقول القائل "كسرت كعوبها أو تستقيما" بل الأولى بقول الله تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
إن الجيل الذي عُلم بالتلقين الخاطئ، أن المسلم دائما هو الأقدر وهو الأقوى وهو الذي يستطيع كلَّ ما يريد، وأن ما لا يستطيع تحقيقه بالقدرة، يمكن أن يحققه بالمعجزة، متناسيا أن المنهج الاسلامي هو منهج للبشر؛ هو المسلم الذي ما زال يخوض التجارب الشاقة الأليمة منذ عقود.
وهذا الجيل من الغلاة الذين يحيطون بالمشروع الاسلامي- غير الموظفين منهم- وهو جيل من الشهداء والضحايا، لم ينشا من فراغ، وإنما نشأ عن خطاب تغلب عليه الحماسة والقصور الشرعي، على مستوى الرؤية وعلى مستوى المباشرة، وعلى مستوى الإجراء، والتعاطي والتوظيف، والمداورة والمداولة…!!
وما زال فريق من الناس ظل يعيش على هوامش العواصم الاسلامية الكبرى، يصنع للشباب المسلم خطابا لا يصرف لا في عالم السياسة ولا في عالم الكياسة..
وما زلنا نخوض خلف هذا الخطاب وراء الخائضين. وإذا كل قضايا المسلمين محشورة تحت عناوين الولاء والبراء، والكفر والإيمان، والإسلام والجاهلية.. حتى كلمات تقال في تحية الصباح.
إن من أولى شروط نجاح المشروع الإسلامي في فضاءات القرن الحادي والعشرين، أن يعتمد المشروع على قاعدة صلبة متينة، من قوى جماهيرية مفكرة واعية مقاربة قادرة على التعاطي الحصيف والمنجز في كل مقام…
وإنه من الشرط الأساسي أن نتجاوز بالجمهور المسلم مفهوم "طبقة العوام" الذين كان بعض السلف يحشرهم في طبقة "الهوام". وعلى الطريقة تفسها التي درج عليها المفكر الفرنسي "غوستاف لوبون" في كتابه سيكولوجية الجماهير، والذي ذبح فيه مفهوم الديمقراطية بسكين ماضية.
ليسوا عواما بل هم الجماهير من حملة المشروع، والمضحين من أجله، والمستفيدين منه، والذين يجب تمكينهم بشتى صنوف التمكين، حتى يعتمدوا على أنفسهم، فيمضوا في طريقهم على الطريق المبصرة…
إن أمتنا وشعوبنا وثوراتنا الصادقة تعيش منذ عقود أزمة متعددة الرؤوس..
فلا أحد يشكك في حكمة وكمال المعطيات الكلية لشريعتنا، ولا أحد يشكك في صدق جماهير ثوراتنا المسلمة والعربية ، ولا أحد يستطيع أن يأخذ مقام المدافع عن المستبدين بهذه الأمة وفاسديها..
ولكننا جميعا نقف مستريبين من مخرجات كل ما قدمنا وما ضحينا وما خضنا وما نخوض..
كنا نتساءل: أين الخلل؟؟
وصرنا نساءل: أين العطب؟؟
في تراثنا الفقهي أسس فقهاء لعلم الرؤية السياسية في كتب الفقه، وتفاوتت وجهات نظر المؤسسين.
ثم ألحق علم السياسة بعلم الأخلاق، فغرق أكثر في مثالية الأحكام المطلقة والكلية!!
وبينما كان الفقهاء والمفكرون يكتبون كان الخليفة العباسي في بغداد يهادي شارلمان، ويسفر له الماوردي العالم الفقيه، والخليفة الأموي في الأندلس يرسل الشاعر الغزال سفيرا إلى بيزنطة..
دائما أكرر على الناس ادرسوا الوثائق والمعاهدات السياسية في دواوين ملوك الاسلام.
اقرؤوا سيرة صلاح الدين عند ابن شداد. صلاح الدين كان يدير مشروعا سياسيا وكان من صناع ديوانه القاضي الفاضل، والعماد الأصفهاني ومن رجاله أسامة بن منقذ صاحب كتاب الاعتبار..
في علم السياسة الخط المستقيم ليس أقرب مسافة بين نقطتين.
معلمنا خرج من مكة يريد المدينة، وطريقه من الجنوب إلى الشمال، ولكنه أول ما خرج خرج من الجنوب إلى الجنوب، إلى غار ثور..
وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها..
المأمول بل المرجو من الاخوة الموجهين والمعلمين والمبشرين أن يتعلموا كل هذا ثم يعلموه للناس..
ما أزال أعجب أن سيدنا علي رضي الله عنه أخرج كل القصاص من مسجد البصرة، غير الحسن البصري. كانوا جيلا يعلم الناس الجهل؛ يقول أحدهم إن اسم الذئب الذي أكل يوسف هو …
جماهير أمتنا تيجان رؤوسنا وحقهم علينا، وليس لنا على أحد منهم حق!!
وسوم: العدد 1077