نحن الجريمة ..
ألسنا نحن الذين قتلنا علي كوارة وزوجته نيفين وابنته أمينة وابنيه عبدو وعلي..!!
نحن!! وكم كنت أتمنى أن أكون قادرا على تجسيم وتضخيم رسم الضمير "نحن" ليكون مثل الجبل يجثم فوق صدورنا، ويحجب أفق رؤيتنا، فلا نرى ولا نسمع إلا من ثنايا النون والحاء والنون..
نحن…
وأول ما قرأت خبر الجريمة المبهمة منذ بضعة أيام: أسرة سورية من أب وأم وثلاثة أبناء، تقضي شنقا وخنقا في مدينة كلس على الحدود السورية..
بقيت متحيرا!! كيف؟؟ ومن هو المجرم الأثيم؟؟
ثم جاء التفسير: الجريمة ليس جريمة مجرم قاتل، ولا جريمة فرد يائس، بل جريمتنا نحن..جريمة مجتمع بكل هيئاته الدينية والمدنية والسياسية والاقتصادية!!
جريمة اليأس والقنوط والخوف والريبة والشك وسوء الظن، وكل ذلك يشيعه بيننا كهنة متعددو الأطياف والألوان..
المجرم فينا "نحن" الكبيرة والأكبر والأكبر بكل من فينا من شاشيات بيض وسود، وكرافتات حمر وصفر وخضر..
"نحن" وليس الصهيوني ولا الصفوي ولا الأسدي ولا أي شيطان رجيم تعودنا أن نستعيذ بالله منه، خبالا، كلما فعلنا فعلة، يستحيي الشيطان منها..!!
وإن الشياطين الحمر والزرق والصفر ليستحيون مما …
حتى الخبر بكل أبعاده لم يشكل لنا "لنحنا" المجرمة الآثمة، مادة تهمنا، أو نتوقف عندها، فنتساءل عن بواعثها وأبعادها وكيف؟؟ وقد كان لها بيننا من قبل سابقات، وسيكون لها من بعد لاحقات؛ ومن يبالي!!
يخصني كل صباح عشرات من أهل الخصوصية بالكثير من الأخبار المختارة المنتقاة..ومن طبعي أنني أحب أن أتابع كل ما يصلني، أعتبر ما يرسله كل صديق تحية، ويجب عليّ ردها..
لا أحد من أحبابي هؤلاء أهمه أن يهتم أو أن ينقل خبر
"والد سوري حلبي في كلس يقتل زوجه وأولاده خوفا عليهم من الذلة ثم ينتحر" !!
وكم تصلني قصائد وحكايات تتغنى بحلب وأهلها!! وعندي أن كل خيمة نصبت في صحراء هي حلب لمن ولد فيها!!
لم يعنِ لكل هؤلاء الخائضين في وحل الحكايات والأخبار شيء؛ أن يقدم زوج ووالد على قتل زوجته التي تحبه ويحبها وابنته وابنيه خوفا عليهم من ذلة ومن جوع!!..
تقولون: مريض مأفون مهزوز..!! وما أسهل التملص من المسؤولية على أصحاب الشاشيات والكرافتات أيضا!!
وإقول: بل كان خوفه وهو الذي يعيش في غابة الذئاب وسطنا، في بجبوحة الرعونة واللامبالاة والبطر وانعدام المسؤولية؛ مشروعا مشروعا مشروعا..
كان خوفه مشرعا وهو يستمع إلى أحاديث الناس بعضهم في السماء السابعة، وبعضهم في الأرض الرابعة،،
قلت: كان خوفه مشروعا مشروعا مشروعا، وهو يخاف على نفسه وعلى زوجه وعلى ابنته وعلى ابنيه ذلة الحاجة والمسألة؛ وأن تزدريهم أعين الناس..
وكان حطان بن المعلى ثائرا كبيرا، وسيد عربيا عاش في القرن الثاني من خير القرون، فترك الثورة لا كفرا بها، وإنما إشفاقا على المعنى الذي دفع يوسف لارتكاب الفعلة، يوم كان يطارده الحجاج، وكم من حجاج بات يركب ظهورنا، ويترصد طرقنا في هذا الزمان!!
يقول حطان وقد ترك الثورة، وآثر التردد بين القبائل طلبا للأمن لا لنفسه بل بناته..
لــــــولا بنيـــــــاتٌ كزغـــــــــب القطــــــا
رددن مــــــن بعــــــض إلــــــــــى بعض
لكــــــان لي مضطــــــرب واســــــــــــــع
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنمــــــــــــا أولادنــــــــــــــــــا بيننــــــــــــــــــــــــا
أكبادنــــــا تمشــــــــــي على الأرض
إن هبت الريــــــح على بعضهــــــم
لامتنعــــــت عيني مــــــن الغمــــــض
نعم الحكاية هي هي، والقصة نفسها، والدافع هو هو..
ويقول حطان في قصيدة أخرى يحكي الحكاية نفسها:
لقـــد زاد الحيــــــاة إليّ حبــــــــــــاً ... بناتي إنهــــــن مــــــن الضعــــــاف
مخافة أن يرين البؤس بعـــدي ... وأن يشـــربن رنقاً غير صاف
وأن يعرين إن كسِيَ الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
وأن يضطرهن الدهر بعـــدي ... إلى جلف من الأعمام جاف
فلولا ذاك قد سومت مهري ... وفي الرحمن للضعفــــــاء كاف
هذه هي لحظات الضعف الإنسانية، تتراكم على الصدور حتى تكون صخرة تقطع الأبهر، وتذهب بالرشد، ولاسيما حين يستشري اليإس، وتطول ألسنة المرجفين..
هذا الصباح، اليوم التاسع من الشهر الخامس..
استقبلت أكثر من مائة خبر، من فيديو مصور، ومَقالة مُقالة، وخير مأساة لشهيد وجريح وصابر ومكابر عن أدنى الأرض وأقصاها، من أكثر من عشرين سوري، ومن كل مرتبات المجتمع السوري، وأكثرها من الذين زعموا أنهم.. وليس فيها عن مأساة السوريين خبر واحد..
لا أحد عاد يهتم لسورية إنسانها وعمرانها ويومها وغدها..
حتى خبر انتحار يوسف كوارة وقتله لزوجه وابنته وابنيه لم يهتم به أحد؛ فهل كان أحدٌ من فريق النحن المأفون، سيهتم لخبر جوعهم أو عريهم أو حاجتهم..'قالت البدوية:
الله بيننا وبين عمر!!
رد عمر مضطربا محتجا: وما يدري عمرَ بكِ!!
أجابته: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا!!
وأقول: ليتهم غفلوا عنا: بل ما زالت مقاريضهم تقرض لحومنا في قبورنا
اللهم اكفناهم بما شئت!!
وسوم: العدد 1079