التربية على المطلقات، في الحكم على القيم والوقائع والأشخاص، بين منبري الجامع والجامعة !!

جميل أو قبيح!! مؤمن أو كافر!! ثوري أو شبيح عميل خائن!!

بهذا العقل ما زال جيل من الناس يعالج القضايا، ويقوّم الأفكار والوقائع والأحداث..

في التعليل الأسدي للخلاف بين نوادي الكرة؛ يكون المختلف معه أو عليه عميلا لإسرائيل. والعقل على طرفي الوادي واحد.

كثيرون لا يفطنون إلى سر الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، في الحكم بالجميل والقبيح!! ويصفون المعتزلة، بقولهم: إن الجمال والقبح عقليان، بالعقليين. مع أن الموقف العقلي الأجمل هو موقف أهل السنة والجماعة: الجمال والقبح في القيم والأفعال: شرعيان. فالحسن ما حسنته الشريعة، والقبيح ما قبحته الشريعة. وهكذا يكون الحكم الشرعي على القيمة في سياقها، وموقعها، وليس حكما مطلقا بعيدا عن السياق.

وإليكم بعض التمثيل:

القتل: قبيح، ولكنه حين يكون قصاصا تكون فيه حياة. والكذب قبيح ولكنه حين يكون دفاعا عن نفس وعن عرض، يكون واجبا..

يقول لك الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إنه من القبيح أن تدل القاتل الخطير على مكان اختبأ فيه نبي أو ولي، بدعوى قول الصدق، الذي أصبح في تلك اللحظة قبيحا..

حين علمنا القرآن الحكم على المسلمين المؤمنين، علمنا أن فيهم قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وكما أن من بينهم السابق في الخيرات، فإن من بينهم المقتصد، ومن بينهم الظالمون لأنفسهم أيضا..

وحين علمنا القرآن الكريم الحكم على الناس من يهود ونصارى وغيرهم علمنا وكرر علينا في أكثر من موطن أن الناس في اتباعهم للحق في تجلياته المتعددة ليسوا سواء. فرب رجل غير مسلم أمين يؤدي القنطار حين تأتمنه عليه!! ورب رجل غير مسلم صادق، ورب.. ورب…

حين نتأمل طرائق الحكم على الأفكار والأحداث والأشخاص المنتشرة بيننا، نرى كثيرا من الناس أمسكوا الأقلام الحمر، وأعلنوا أنفسهم رقباء على عقائد الناس، وعلى أفكار الناس، وعلى سلوكيات الناس؛ والعلامة دائما بين العشرة والصفر….

والحق والصدق يقتضيان عندما نقرأ أي صفحة، أن يكون بأيدينا قلمان؛ أخضر وأحمر، والميزان دائما ذري.

وحتى في الحكم على القضايا والأفكار والآراء.. يزعمون أنه لا يوجد في موازين الشرع والعقل؛ غير كفة للحق وأخرى للباطل، ولا يوجد مكان للراجح والمرجوح، ولا للبحر المتقارب فعولن فعولن..

إن العقل المطلق، والرؤية المطلقة، والموقف المطلق، والمطالبة المطلقة.. هي سر من أسرار الضياع الذي عاشت الأمة وتعيش. وسر هذا الضياع في التربية الجائرة أو المنحرفة التي جبلت عليها العقول والقلوب بين الأسرة والمسجد والمدرسة وحتى على منابر التوجيه العام.

يقولون عن شيخ الاسلام ابن تيمية إنه سلفي!! ولكن عقله السلفي هو الذي أنجز هذه المقولة: لا يكون الرجل فقيها حقا حتى يدرك أكبر المصلحتين فيحققها، وأعظم المفسدتين فيدرؤها..

نفوّت المصلحة الكبيرة لنحقق المصلحة الأكبر. نحتمل المفسدة الصغيرة لندرأ المفسدة الأعظم.

وكما نحب أن يكون في صفوف المسلمين ثلة من السابقين السابقين، نقر أن فيهم ثلة من أصحاب اليمين، وثلة وثلة وثلة من الظالمين لأنفسهم يحاولون اللحاق فلا يكادون..

وكما نتملى مع كل صباح صورة الحال الذي نحلم به، ونريد أن نصير إليه في واقعنا الفردي والجماعي والاجتماعي والوطني والأممي والإنساني، وكذا في واقعنا العلمي والفكري والأخلاقي والسياسي والاقتصادي؛ يمكن في إطار عملية أو جدلية التدافع في صيرورتها المتمادية أن نتقوى بالأقل حتى ندرك الأكثر..

في تقويمنا للرجال من حولنا:

يمكن أن نقول: لم يكن فلان صديقا أو شهيدا أو الرجل الذي قام إلى صاحب السلطان الجائر يأمره وينهاه؛ ولكنه أيضا لم يكن أبا جهل ولا أبا لهب، ولا قدار عاقر الناقة..

بين العشرة الكاملة والصفر المكعب عشر درجات.

إن الانحياز إلى ما يسمى صف الثورة ليس الماحي ليس يمحو الذنوب والموبقات، وأن يكون للمخالف رأي مخالف على أي أساس بناه، لا يعني أنه من الأخسرين.. وإذا خرجنا من الحمى- تفسير النيات- يمكن أن نقبل أن أحدهم أحسن وأساء.

ليس فينا من بطل غير الشهيد ومن سار بحق على نهج الشهيد!!

اللهم تقبل منا صالح ما قدمنا واغفر لنا ما دون ذلك..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1080