القواعد الأربع لتعميم الدعاية الصهيونية
يعتمد الكيان الصهيوني في تعميم سردياته المختلفة على المستوى الدولي، على عدد من الاستراتيجيات القوية، بهدف تحويل الأهداف الصهيونية الثابتة إلى ثقافة عامة مقبولة، وكأنها مسلّمات يتبادلها الناس على أنها حقائق. وتستند هذه الاستراتيجية الثابة على تغييب الآخر وكأنه غير موجود ولا مكان لمقولاته ومواقفه ومعاناته. إنها باختصار باطل يتم قلبه إلى حق، وحق مغيب يتهم بأنه باطل إذا ما اخترق الحواجز ووصل الناس ووجد من يسمعه، أو يقتنع به أو يتبناه، أو يعطيه على الأقل فرصة للنقاش.
هذه الاستراتيجية ظلت قائمة على مدى أكثر من ستة عقود، كان الحق الفلسطيني مغيبا والباطل الصهيوني حاضرا في كل مجال، لدرجة أن استطلاعا للرأي جرى في بداية الثمانينيات وجد أن 10 في المئة فقط تتفهم الموقف الفلسطيني، بينما عدد المؤيدين للموقف الإسرائيلي يزيد عن 80%. انقلبت الآية تماما في الشهور الماضية.
تعرضت سمعة إسرائيل لأزمة حقيقية بسبب الضحايا من المدنيين في الهجوم على لبنان في صيف عام 1982، خاصة بعد مذبحة صبرا وشاتيلا. وقد ساهمات كتابات الصحافي البريطاني روبرت فيسك والصحافي الإسرائيلي أمنون كابيلوك في فضح المجزرة، ما جعل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان يوجه انتقادات لاذعة لمسلكية رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك مناحيم بيغن، ووزير حربه إرييل شارون. وضعت بعدها الخارجية الإسرائيلة وجهاز الموساد وأجهزة أخرى خطة للسيطرة على الرأي العام في الولايات المتحدة بالذات، عن طريق وسائل الإعلام الأساسية وتوظيف شركات العلاقات العامة وتشغيل وتوسيع وتمكين المنظمات المؤيدة للكيان، والتركيز على السيطرة على الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشيوخ والنواب. هذا من جهة ومن جهة أخرى مراقبة الشخصيات والمفكرين والصحافيين وأساتذة الجامعات والتجمعات الطلابية واختراقها والعمل على تدميرها. وقد أنشئت منظمة باسم «رقابة الحرم الجامعي» (Campus Watch) لمراقبة الأنشطة الطلابية وتعقب الأساتذة غير المؤيدين لإسرائيل والمتعاطفين مع فلسطين. وقد اعتمدت هذه الجمعيات العديدة وأهمها لجنة الشؤون العامة للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) مجموعة من الاستراتيجيات لتعميق السيطرة ونشر الرواية الإسرائيلة وطرد الرواية الفلسطينية. وأهم هذه الاستراتيجيات:
لقد أسقطت حرب الإبادة في غزة جميع السرديات الزائفة لهذا الكيان المصنوع في مختبر بريطاني ويعيش على ضخ الدماء فيه عبر أنابيب أمريكية
أولا: الكذب وتكرار الرواية الكاذبة
لا يتردد الكيان الصهيوني في اختلاق الأكاذيب وتعميمها وإعطاء تفاصيل من صنع الخيال، وما أن يطلق الصهاينة الكذبة حتى تعمم على السفارات مصحوبة بتعليمات واضحة لنشرها. تبدأ وسائل الإعلام المؤيدة بترداد الرواية الكاذبة لأيام متواصلة حتى تصبح وكأنها حقيقة. وبعد أن يتم كشف الكذبة ودحضها وتفتيتها بالحقائق يكون الخراب قد عمّ ومن الصعب جدا احتواؤه مرة أخرى. نذكر كذبة قطع رؤوس 40 طفلا، وكذبة اغتصاب النساء حتى وهن ميتات، وتفجير مستشفى المعمداني (الأهلي) بسبب صاروخ تابع للجهاد، وكأن صواريخ الجهاد لديها القدرة على قتل 500 شخص مرة واحدة، وقصة النفق تحت مستشفى الشفاء، ومجزرة الطحين، وقصف قافلة اللاجئين. وقتل الأطفال لأن حماس والفصائل تستخدمهم دروعا بشرية. لكن أكبر الأكاذيب وأوسعها ضررا تهمة اشتراك 12 موظفا من الأونروا في عملية «طوفان الأقصى»، تلقفتها 16 دولة من الدول الغربية الممولة للأونروا وأوقفت التمويل فورا حتى قبل نتائج التحقيق، ليتبين أن كلها أكاذيب واعترافات أخذت تحت التعذيب والتهديد. أعظم كذبة سمعتها خلال حرب الإبادة عندما اتصل سفير الكيان لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، برئيسة مكتب الأمين العام للأمم المتحدة ليعبر عن سخطه لإدراج إسرائيل في قائمة العار لمنتهكي حقوق الأطفال حيث قال: «إن جيش الدفاع الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقا في العالم».
ثانيا: تغييب القضايا الأساسية
هناك مصطلحات وحقائق ووقائع، يمنع ذكرها أو الإشارة إليها أو تكرارها.. وقائع وحقائق يجب ألا تظهر ولا تصل إلى عين وأذن وعقل المشاهد أو السامع أو القارئ. يجب تغييب حقيقة وجود «احتلال». لم يعد أحد يذكر أن هناك احتلالا، للضفة وغزة منذ 57 عاما أي منذ 1967. وكلمة الاحتلال لم ترد ولو مرة واحدة على لسان المندوبين الإسرائيليين في الأمم المتحدة، حتى كلمة الضفة الغربية لا ترد على الإطلاق، بل باستخدام المصطلحات العبرية.. ذكر الحواجز التي يعاني منها الفلسطينيون وأطلق عليها «مختبرات الإذلال» لا وجود لها، والجدار العازل الذي اكتمل والتف حول أعناق المدن والقرى الفلسطينية غائب أبدا، ورأي محكمة العدل الدولية الصادر بتاريخ 9 يوليو 2004 والذي نص على «عدم شرعية الجدار وضرورة تفكيكه وتعويض الفلسطينيين المتضررين من بنائه»، لا أحد يذكر هذا. لا ذكر للاحتلال أو الجدار أو الحواجز أو مصادرة الأراضي أو هدم البيوت، لا أحد يذكر أكثر من 9000 أسير فلسطيني. الذكر فقط لنحو 120 رهينة إسرائيلية. الرواية الإسرائيلية دائما جاهزة عند المداهمات والقتل فهي قوات أمن شرعية تقتل «إرهابيين»، أما إذا حدث العكس فالقاتل والمقاوم دائما إرهابي. إذا قتل الفلسطيني فهو رقم، حيث يكرر الإعلام الغربي وحتى تقارير المسؤولين الدوليين، خبر قتل خمسة أو عشرة أو 200 لا فرق. بينما عندما يقتل إسرائيلي فهو إنسان، وتظهر جنازته على التلفزيون، ويرى أقاربه وهم يبكون وتدبج التقارير في مزاياه وقدراته وهواياته. وقد يظهر أحد أبنائه وهو يبكي.
ثالثا: تقمص دور الضحية
إسرائيل تلعب دور الضحية دائما حتى وهي تفتك وتقتل وتدمر وتصور القتل والتدمير وتتفاخر بإنجازاتها الكبرى في تدمير الجامعات والمستشفيات والمدارس والعيادات والأفران، ومحطات تحلية المياه وملاجئ السكان وآبار المياه. لكن مع كل هذا فهي ضحية. تصور نفسها بلدا مسالما محاطا بالأعداء من كل مكان. ولا نعرف أين هي الحدود الملتهبة ضد الكيان، فهل مصر أو الأردن أو سوريا تطلق يوميا مجموعات من المسيرات وتترك المتطوعين ينضمون للمقاومة الفلسطينية؟ الأطراف التي تعادي الكيان جميعها «جماعات غير حكومية»، بعد أن طوعت الحكومات العربية واحدة بعد الأخرى وأولها مصر وليس آخرها سلطة أوسلو الكارثية. تستغل إسرائيل دائما وأبدا سرديتين في تقمص دور الضحية: مأساة المحرقة أو الهولوكوست، وتهمة معاداة السامية. يبررون جرائمهم بما أصابهم من قتل أيام المحرقة، ولكن لماذا على الفلسطيني والعربي أن يدفع ثمن جرائم ألمانيا النازية؟ والتهمة الأخرى الجاهزة أبدا لكل من ينتقد أو يعارض أو يرفع شعارا عن فلسطين، أو يهتف باسمها، أو يسير في مظاهرة من أجل وقف إطلاق النار فهو معاد للسامية وكاره لليهود ويجب إسكاته وتشويهه واعتقاله ومحاكمته بتهمة تعميم خطاب الكراهية ضد اليهود، أي خطل أكبر من هذا؟
رابعا- استخدام سياسة الهجوم في كل الاتجاهات
يستخدم ممثلو الكيان الهجوم الوقح دائما على من لا يتفق مع روايتهم الكاذبة، فالهجوم على الأمين العام متواصل لأنه معاد للسامية، وهو الذي يجب أن يضاف إلى قائمة العار، ومجلس الأمن في مجمله مجلس إرهابي، والجمعية العامة معادية للسامية، فقد خاطب المستوطن برتبة سفير إردان، 143 دولة قائلا «عار عليكم» ومزق ميثاق الأمم المتحدة في وجوههم. ومحكمة العدل الدولية معادية للسامية وجنوب أفريقيا تشتغل محامية دفاع عند حركة حماس، ومجلس حقوق الإنسان وكر لكارهي اليهود، ومحكمة الجنايات الدولية معادية للسامية ولا شرعية لها. والقائمة تطول. وكم كان بليغا سيد الكلمة درويش عندما قال»سرقت دموعنا يا ذئب تقتلني وتسرق جثتي وتبيعها».
لقد أسقطت حرب الإبادة في غزة جميع السرديات الزائفة لهذا الكيان المصنوع في مختبر بريطاني ويعيش على ضخ الدماء فيه عبر أنابيب أمريكية.
وسوم: العدد 1083