معاناة السجناء السياسيين لدى الاحتلال

السجون تعكس مدى تحضر الأنظمة السياسية أو تخلفها، ومدى التزامها بالقيم الإنسانية أو انسلاخها منها. فالمفترض أن يكون السجن عقوبة تفضي إلى تغيير في سلوك السجين ونظرته للحياة، وليس انتقاما منه أو تدميرا لحياته. يصدق هذا بشكل كبير على المعتقل الذي سجن بسبب جرائمه وتعدّياته على القانون العام. أمّا حين يكون المعتقل سياسيا وكان سجنه بسبب معارضته للنظام السياسي وسعيه لإصلاح الأوضاع في بلده، فقد اعتادت الأنظمة العربية مضاعفة التنكيل به واضطهاده.

وقد يحظى السجين العادي بمغادرة السجن باكرا حين يطرح الحاكم عفوا عاما، بينما لا يحظى السجين السياسي بما يسمى فترة «المعاف». وفي أغلب البلدان تكتفي السلطات بقضاء السجين نصف الفترة المحكوم بها، فإذا كان سلوكه سليمًا يتم الإفراج عنه. أما السجين السياسي فيبقى في السجن ليقضي كامل العقوبة التي فرضت عليه وربما يزيد عليها. إنها واحدة من المفارقات في عالمنا العربي الذي ما يزال يعيش الاضطهاد والقمع. ويشعر النظام عادة أنه «أمِن شرَّ» السجين العادي بينما يبقى السجين السياسي بعبعا في عين الحاكم وبطانته، ويبدو شوكة في نظر الحاكم الذي أمر بسجنه، ويبقى مصدر قلق مستمر لما يمثله من حالة تمرّد على الحكم حتى لو كان بين القضبان. وبرغم وجود جهات دولية من بين أهدافها ضمان حقوق السجين المحكوم، فإن المخالفات لا تنتهي. ويمثل الصليب الأحمر الدولي إحدى الجهات الدولية التي تزور السجناء على فترات متقطعة. ويشعر المعتقلون عادة بقدر من الارتياح عندما تزورهم منظمة حقوقية أو إنسانية، وتستمع إلى شكاواهم وترفع تقارير إلى الجهات المعنية حولهم. مع ذلك فإن ما يدور خلف القضبان كثيرا ما يترك آثاره على نفسيات المعتقلين ويلازمهم سنوات طويلة بعد خروجهم. وبذلك يصبح السجن سببا لمعاناة إنسانية لقطاع واسع من المواطنين اختار أن يحمل على عاتقه مشروع التغيير والإصلاح.

طرحت الحكومات المتطورة برامج إعادة تأهيل للخارجين من السجن، تعيد لهم قدرا من الثقة المفقودة بالنفس والرغبة في العمل والشعور بالجدوى من الحياة والانخراط في الفعاليات الاجتماعية

إن من غير الممكن تطوير النظام السياسي العربي بدون تطوير أساليب معاملة الشعوب، سواء على مستوى الممارسة السياسية والحقوق الديمقراطية أم في مجال حقوق الإنسان أم مستلزمات المواطَنة خصوصا في مجال الحرّيّات العامة والحقوق السياسية. وتعتبر السجون مجالا لفحص مدى جدّيّة النظام الحاكم في الالتزام بالمواثيق الدولية وقيم حقوق الإنسان. فالسجون العربية تعاني من مشاكل عديدة منها الاكتظاظ بالإضافة لسوء المعاملة. وتتميّز السجون العربية كذلك بأن بعض المعتقلين فيها لم يرتكبوا جرما يعاقب القانون عليه. فهناك السجناء الجنائيون أي الذين ارتكبوا جرائم كالقتل أو السرقة او الاعتداء، وهناك السجناء السياسيون الذين يُعتقلون بسبب فكرهم أو مواقفهم أو نشاطهم السياسي أو معارضة النظام. هذا النوع من «الجرائم» ليس له وجود في الدول التي تمارس الديمقراطية. فمن حق المواطن انتقاد الحكومة أو الدعوة لإسقاطها أو تطوير النظام الانتخابي. الأمر الممنوع هو الدعوة للعنف، فهذا خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه. وما سواه يُعتبر نشاطا مشروعا. وفي بعض الدول العربية ثمة اختلاف في أساليب التعامل مع النوعين من السجناء. فبينما يُعامَل أغلب السجناء الجنائيين ضمن ضوابط السجن ووفقا للقانون بشكل عام، فإن المعتقلين السياسيين يتعرضون للضغوط السياسية والقضائية، وتعتبر دماؤهم مهدورة، ويوضعون في فوّهة المدفع دائما، لأن النظام السياسي الحاكم يرفض الاعتراف بوجود معارضة حقيقية، ويعتقد أن التظاهر بالدعم الشعبي يكفيه مؤونة دفع فواتير السماح بالحريات العامة والإصلاح والشراكة السياسية والتعددية.

على صعيد آخر ثمة ادّعاءات كثيرة حول «إعادة تأهيل» السجناء بعد خروجهم من الزنزانات. فمن المؤكد أن بقاءهم وراء القضبان سنوات طويلة يترك آثارا على نفسياتهم وأنماط تفكيرهم ورؤاهم كذلك. فالعيش في مجتمع صغير جدّا بدون حرّيّة وبحركة محدودة يترك آثاره المدمّرة على الشخص، فيُحدث لهم رغبة في الانعزال ويقلّص مهاراتهم، ويجعلهم متخلّفين في المستوى المعيشي نظرا لعدم انخراطهم في وظائف أو التزامات يومية واضحة وهادفة. هذه المشاكل تلازمهم فترة طويلة بعد خروجهم من السجن. لذلك طرحت الحكومات المتطورة برامج إعادة تأهيل للخارجين من السجن، تعيد لهم قدرا من الثقة المفقودة بالنفس والرغبة في العمل والشعور بالجدوى من الحياة والانخراط في الفعاليات الاجتماعية، فكل ذلك ضرورة للحفاظ على الشعور بالإنسانية والأهمية الشخصية والدور المتاح للشخص لممارسته خارج الحيطان الأربعة للسجن. ومع الأسف الشديد ليس هناك مشاريع أو برامج تأهيل للمفرج عنهم، الأمر الذي تنجم عنه تبعات قاسية ليس للشخص فحسب بل لعائلته وأصدقائه الذين يشعرون بالعجز عن التعاطي معه. إن من الضرورة بمكان توفير معاهد التأهيل ومؤسساته وبرامجه حفاظا على إنسانية السجين سواء كان جنائيا أم سياسيا. إنه مطلب إنساني ملحّ خصوصا في الدول التي يكثر في سجونها النشطاء السياسيون الذين انتهت بهم الأقدار للاعتقال السياسي الذي كثيرا ما تصاحبه معاملة سيئة واضطهاد وتعذيب. ولا بد من التأكيد على أن ضحايا التعذيب يحتاجون لتأهيل أكبر لتضميد جراحهم النفسية والجسدية.

إن من الصعوبة بمكان الحديث عن تطوير الوضع السياسي العربي بدون النظر إلى مدى احترام الإنسان ككائن له حقوق وقيمة إنسانية وكرامة يجب أن تُصان. وهذا يتطلب استعراض واقع السجون ومراكز الاحتجاز في الدول العربية، ومقارنة ذلك بما تنص عليه المواثيق والمعايير الدولية الخاصة بحقوق السجناء. وبعد ذلك يُفترض أن تكون هناك مخرجات تهدف للارتقاء بواقع المعتقلات والسجون ومراكز الاحتجاز العربية بكافة تسمياتها. هذا الارتقاء يتطلب كذلك طرح بدائل للسجن (التدابير غير الاحتجازية) وأهمية فض النزاعات بدون اللجوء للمحاكم مما يخفف أعداد السجناء، وكذلك مناقشة مبدأ حصر إنزال العقوبة بالدولة. هذا يتطلب إعادة قراءة مفاهيم العدالة ونظمها، وما إذا كانت السلطة القضائية مرتبطة بالنظام السياسي، وما يعنيه ذلك من تضارب المصالح والتأثير على مجرى العدالة. يضاف إلى ذلك ضرورة إعادة تأهيل المؤسسات والأفراد المعنيين بالإشراف على إقامة حكم القانون. وليس غريبا القول أن أجهزة الشرطة في أغلب البلدان العربية بحاجة لإعادة التأهيل لتستطيع أداء مهماتها بمهنيّة وإنسانية، وإبعاد عقلية الانتقام من الأنظمة التدريبية والتأهيلية. إذ يُفترض أن يكون الشرطي مكلّفا بأداء خدمة وليس مخلوقا مرعبا للناس.

ويمثل السجناء السياسيون في المعتقلات الإسرائيلية تحدّيا كبيرا للضمير الإنساني بسبب ما يتعرضون له من معاملة تؤكد مشاهد المفرج عنهم انحطاطها وقصورها عن المعايير الدولية. فهم يقاسون اضطهادا متواصلا ومعاملة حاطة بالكرامة الإنسانية. وتلخص حالة المعتقلين الفلسطينيين الستة الذين أفرجت قوات الاحتلال عنهم الأسبوع الماضي في غزة تلك المعاناة. فقد كانوا «بالكاد يستطيعون السير من شدة التعب والإرهاق والألم الناتج عن عمليات التعذيب المتكررة وسوء التغذية وقلة النوم». ووفق شهادات المُفرج عنهم، فقد تعرضوا لـ «ضرب وتعذيب وإهانات وتحقيق مستمر طوال فترة الاحتجاز، وتنقلوا بين سجون إسرائيلية». ووثقت منظمات حقوقية كثيرة، فلسطينية وعربية وأجنبية أوضاع السجون الإسرائيلية. فقد وصفت منظمة «هيومن رايتس ووتش» وحشية قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأسرى الفلسطينيين في سجونها، معتبرة الانتهاكات التي يتعرض لها هؤلاء الأسرى ترقى إلى «جرائم حرب».

كما تتحدى إسرائيل طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعها يوآف غالانت لمسؤوليتهما عن «جرائم حرب» و»جرائم ضد الإنسانية» في غزة.

السجناء الفلسطينيون لم يستكينوا لواقعهم في السجن، فكثيرا ما أضربوا عن الطعام احتجاجا على الاوضاع التي يعيشونها، واضطرت «إسرائيل» للإذعان لبعض تلك المطالب لإنهاء الإضرابا، ومنعًا للأضواء الدولية المسلّطة عليها. ولكن بعد حوادث 7 أكتوبر سحبت ما قدّمته لهم وشعر المعتقلون أنهم حُرموا «كل إنجازاتهم»، التي تحققت بعد نضال استمر سنوات طويلة مثل الكهرباء والتلفزيون والزيارات والأغطية وغيرها.

وسوم: العدد 1089