بين ضفاف السين وساحة الجمهورية: حقائق الأولمبياد وأكاذيبه

إذا كانت ضفاف نهر السين، في العاصمة الفرنسية باريس، قد شهدت فعاليات مبهرة خلال حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية 2024؛ فإنّ ساحة الجمهورية في العاصمة إياها شهدت تظاهرات متعددة الأطراف، شاركت فيها نحو 82 رابطة وهيئة ومنظمة مستقلة عن الحكومة، تستهدف فضح سلسلة من الأكاذيب، وبعض الجرائم أيضاً، التي تمّ ويتمّ تمويهها تحت الشعار الأولمبي الشهير، وروح التنافس الرياضية الكونية.

ولقد كان لافتاً أن تحظى فلسطين ودولة الاحتلال الإسرائيلي بقسط مركزي من أنشطة الاحتجاج تلك، إذْ أنّ حضور الرياضيين الإسرائيليين في العديد من المنافسات الأولمبية كان، في وجهة أولى، يعكس وضعهم على قدم المساواة مع رياضيي الأمم جمعاء؛ وكأنّ العديد منهم لم يشارك، مباشرة أحياناً، في جرائم الحرب التي ارتكبها ويواصل ارتكابها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة وسائر فلسطين.

أو، في وجهة ثانية لا تقلّ وقاحة وخطورة، كأنّ الراية التي يرفعها الرياضيون الإسرائيليون ليست علم الدولة المدانة بارتكاب الإبادة الجماعية بموجب القانون الدولي عبر محكمة العدل الدولية، ويقع بعض كبار ساستها تحت طائلة الملاحقة والاعتقال في المحكمة الجنائية الدولية؛ أو، في بُعد آخر من المسألة ذاتها، كأنّ نجمة داود ليست رمز كيان صهيوني يسير حثيثاً نحو تكريس منظومات الأبارتيد الأسوأ في التاريخ الحديث والمعاصر.

ولعلّ واحداً من مظاهر التضامن العالمي الأوسع مع الشعب الفلسطيني، ضدّ جرائم حرب الاحتلال، أنّ الالتفاف حول القضية والحقوق الفلسطينية بات يتكامل أكثر فأكثر مع مطالب حقوقية وسياسية ونقابية تتصف بالنطاق الأعرض من حيث تمثيل الشعارات المطلبية الكونية العابرة للأمم والجغرافيات والطبقات. وصحيح بالطبع أنّ وحشية الاحتلال أتاحت مساحة أعرض لوحدة الساحات النضالية وللتكاتف العضوي الأعمق، إلا أنّ مواظبة النشطاء في أربع رياح الأرض على مساندة الشعب الفلسطيني وإدانة الاحتلال، أتاحت رسوخ سيرورة التضامن وتمكين أشكال منها متنوعة التأثير.

ولم يكن بغير دلالة خاصة أنّ صفوف الاحتجاج في ساحة الجمهورية الباريسية ضمّت ممثلين عن «الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام»، ممّن رفعوا شعارات تقول إنّ «الألعاب الأولمبية فضيحة لأنها تستقبل فريقاً إسرائيلياً حكومته مسؤولة عن الإبادة في سجن مفتوح السماء». دلالة أخرى بالغة الأهمية هي أنّ التضامن مع الشعب الفلسطيني، والاحتجاج على مشاركة الوفد الإسرائيلي، امتزج أيضاً بملفات أخرى إنسانية واجتماعية مثل أعمال الإخلاء العشوائية التي مارستها بلدية العاصمة باريس ضدّ تجمعات سكانية ومراكز أشغال ومصادر عيش وكسب رزق، بذريعة التنظيم الأفضل لمنشآت الألعاب الأولمبية.

وقد يتفق المرء أو يختلف حول المظانّ الكثيرة التي تحيط بالألعاب الأولمبية إجمالاً، وما إذا كانت الكفّة العليا فيها راجحة للروح الرياضية والإخاء بين الأمم والتنافس الحرّ العادل والسلام العالمي، أم أنها ترجح أكثر للاستثمار الرأسمالي والتوظيف التجاري والعقلية الاستهلاكية والخضوع إلى معادلات الاختلال الأكبر بين أقوياء العالم أمام ضعفائه.

غير أنّ هذه الألعاب، على غرار غالبية ساحقة من الأنشطة العالمية التي تديرها وتتحكم بقوانينها جهات لا تخرج كثيراً عن قواعد اللعبة الرأسمالية، وربما الاستعمارية في السابق والإمبريالية لاحقاً، وتنويعاتها في إطار الليبرالية المتوحشة والعولمة القسرية راهناً. لها بالتالي ما لها، وعليها ما عليها، من محاسن ومساوئ ومصداقية وزيف؛ وليس حضور الوفد الإسرائيلي وسط تهليل وترحيب، مقابل الإجحاف الفاحش بحقّ الرياضيين الروس وماضيهم التليد وإنجازاتهم المشهودة، سوى التمثيل الصارخ الأحدث عهداً لاختلال المعادلات.

وهكذا، بين فخامة الاحتفالات على ضفاف السين، وقسوة الوقائع التي يسوقها المتظاهرون في ساحة الجمهورية، تتأسس مشروعية التساؤل عما إذا كانت باريس تشهد أكثر من أولمبياد واحد، سياسي واجتماعي وحقوقي وأخلاقي قاتم، قبل ذاك الرياضي المبهج والوضاء.

وسوم: العدد 1089