اغتيال الأشخاص حصيلة لاغتيال المنطقة
مع مرور نحو عشرة أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة التي تم تسويغها بذريعة ضرورة القضاء على «حماس»؛ وذلك بعد العملية النوعية التي نفذتها الحركة المذكورة مع الفصائل المتعاونة معها في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ومع إخفاق المبادرات التي طرحها الوسطاء، لا سيما قطر ومصر؛ وهي المبادرات التي استهدفت الوصول إلى توافقات إسرائيلية حمساوية حول موضوع إطلاق المحتجزين، وإيقاف الحرب، والبت في موضوع مستقبل حماس ودورها في إدارة قطاع غزة مستقبلاً. ظهر جلياً أن حكومة نتنياهو، وهي الحكومة الأكثر يمينية وتشدداً في تاريخ إسرائيل، تعد نفسها لمرحلة جديدة من التعامل مع «محور المقاومة والممانعة» تتمثل بصورة أساسية في اغتيال القيادات الميدانية المؤثرة. وهو أسلوب قديم جديد، اعتمدته إسرائيل بهدف التخلص من الفاعلين، وإرسال الرسائل إلى أصحاب الخطابات والشعارات بهدف الإرباك، وخفض المعنويات، والتأثير في الحاضنة الشعبية. وضمن هذا التوجه، جاء اغتيال القيادي الميداني الأبرز في «حزب الله» فؤاد شكر؛ والأمر نفسه بالنسبة إلى اغتيال اسماعيل هنية في طهران؛ هذا مع أهمية الإشارة إلى واقع فحواه أن اغتيال هنية لم يكن متوقعاً في هذه المرحلة، وذلك لأسباب عدة منها: عدم امتلاكه القرار الميداني لـ «حماس»؛ إلى جانب أسلوبه البراغماتي في التعامل مع أجهزة الدول العربية، واستعداده للتوصل إلى الحلول الوسط. غير أن رمزيته، وموقعه الاعتباري، بوصفه رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» جعلا الاغتيال من المواضيع النوعية التي تستوجب التمعن والبحث عن الأسباب.
من الواضح أن الاغتيالين، وقبلهما الاغتيالات الأخرى، عبارة عن رسائل قوية تخص الجانب الإيراني، تحمل توجهاً إسرائيلياً مفاده: ضرورة وضع حد للتمدد الإيراني في دول المنطقة، خاصة بعد أن شمل هذا التمدد الشواطئ والممرات المائية الاستراتيجية، ومن بين ما يُذكر هنا السواحل الشرقية للمتوسط، بالإضافة إلى مضيق باب المندب؛ وربما مستقبلاً شواطئ السودان، كما يُذكر أيضا الخليج ومضيق هرمز، وذلك بعد أن تمكن النظام الإيراني من فرض وجوده ونفوذه في أربع دول عربية في المنطقة (سوريا، العراق، لبنان، اليمن).
واستطاع التغلغل ضمن المفاصل السياسية والأمنية والعسكرية والمجتمعية في تلك الدول، كما أفلح في تشكيل الميليشيات والأحزاب الولائية التي وصلت إلى البرلمان، وغدت قوة مؤثرة في فرض السياسات والاتفاقيات، واتخاذ القرارات السيادية التي باتت في تصرف نظام و«الولي الفقيه» الإيراني، وبأموال الدول المعنية ومواردها البشرية. ولم يقتصر النفوذ الإيراني على كل ذلك فحسب، بل اتسع نطاقه ليشمل الموارد الطبيعية والمنشآت الاقتصادية الأساسية التي تمت السيطرة عليها، مقابل الديون التي تراكمت بفعل المصاريف التي أنفقتها إيران لإبقاء حلفائها على رأس الحكم، أو ضمن دائرتها المؤثرة في الدول المعنية.
وكل ذلك تتحسب له إسرائيل بفعل المخاطر المستقبلية، رغم تيقنها من قدرتها على ضبط الأمور حالياً. فالتحالف الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، والتزام الدول الغربية الأساسية بأنها مصطفة معها في السراء والضراء؛ هذا إلى جانب حسابها المفتوح لتلقي المساعدات المالية وآخر أصناف الأسلحة النوعية الدفاعية والهجومية؛ فكل ذلك يبدو أنه لا يكفي لتهدئة هواجسها الوجودية الناجمة عن الحسابات الديموغرافية والأمنية، وعدم التوصل حتى الآن إلى صيغة من التوفيق بين تعارض التوجهات الدينية المتشددة لدى مختلف الأطرف المتصارعة، حتى أصبحت هذه الأخيرة لدى كل طرف أيديولوجية تعبوية تجييشية تستخدم لشد عصب الأنصار، وإحراج المنافسين عبر تأليب مواطنيهم عليهم، وإثارتهم ضدهم.
فورقة القدس كانت منذ أيام الحروب «الصليبية» الأولى أيديولوجية استخدمتها القوى المتنافسة في العالمين الإسلامي والمسيحي، الحاكمة أو الطامحة في الحكم، لتعزيز مواقعها، وكسب المؤيدين. ومع تراجع الاهتمام الغربي المسيحي بهذه الورقة، وبعد وعد بلفور الشهير 1917 الخاص بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لأسباب كثيرة من بينها: التخلص من المشكلة اليهودبة في أوروبا، واستخدامها في الوقت ذاته أداة لاستمرارية هيمنة طويلة الأمد على الشرق الأوسط.
وجاءت الحرب العالمية الثانية وانتهت بالانتصار على النازية التي ارتكبت أبشع الجرائم ضد اليهود والغجر وغيرهم من الفئات المجتمعية الضعيفة المستضعفة. وكان قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين عام 1947 وهو القرار الذي رفض عربياً، وفتح الأبواب أمام صراع عنيف، أصبح مع الوقت مزمناً مستمراً إلى يومنا الراهن.
لن نسترسل هنا في تناول التفصيلات التاريخية وأسبابها ونتائجها التي كانت منذ اتخاذ قرار التقسيم حتى الآن، وذلك حتى نفسح المجال أمام مناقشة الاحتمالات المنتظرة في منطقتنا بعد اغتيال كل من شكر وهنية.
فبعد جهود حثيثة من جانب الوسطاء القطريين والمصريين، وبمشاركة أمريكية رفيعة المستوى، وعبر لقاءات مباشرة مع المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين على أمل الوصول إلى حل بخصوص الإفراج عن المحتجرين، ووقف إطلاق النار في غزة، وبعد مماطلات عدة، خاصة من الطرف الإسرائيلي الذي كان يغيّر باستمرار مطالبه وأولوياته، والأمر نفسه بالنسبة إلى حماس وإن بمستوى أقل، وذلك تحت تأثير الجانب الإيراني الذي كان من الواضح منذ اليوم الأول أنه يسعى لتوظيف ما حصل، ويحصل، في غزة لصالح مشروعه الإقليمي المتمحور حول التمدد في دول ومجتمعات المنطقة، والتسرب إلى دوائر اتخاذ القرار فيها.
وبعد التأكيدات الأمريكية المتعاقبة بشأن عدم الرغبة في توسيع نطاق الصراع الإقليمي لجملة أسباب منها داخلية، تتصل بالحسابات الانتخابية الرئاسية الأمريكية، والاستقطاب الحاد الذي يعاني منه الأمريكيون، وخشيتهم على دور بلادهم الريادي على المستوى العالمي.
وهناك أسباب خارجية لها صلة بالأولويات الأمريكية في مختلف أنحاء العالم، لا سيما على صعيد المنافسة الاقتصادية/التجارية مع الصين، وبذل الجهود الجادة لقطع الطريق أمام تحالف سياسي عسكري محتمل بين الروس والصينيين. الأمر الذي سيؤدي، في حال حدوثه، إلى إمكانية انضمام كوريا الشمالية، وربما دول أخرى في مناطق عدة من العالم إلى هذا التحالف (في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وحتى في الشرق الأوسط حيث إيران هي المرشحة الأبرز لمثل هذا الدور). وربما الأمر الجدير بالذكر في هذا السياق، هو وجود تنافس أمريكي روسي واضح على تركيا في هذا المجال.
جميع هذه المعطيات تلقي الضوء على حدود التباين بين الموقفين الأمريكي والإسرائيلي، لا سيما في مرحلة حكم نتنياهو، حول تقييم القضايا، واتخاذ المواقف.
فالأخير قد تمكن من نسج العلاقات مع بوتين، وتوصل معه إلى تفاهمات منذ بدايات الثورة السورية ربيع 2011 وهي التفاهمات التي تطورت في عام 2015 بموافقة ومشاركة أمريكية، يحاول بشتى السبل المحافظة على مصالح إسرائيل الخاصة بها، وتعزيز دورها الإقليمي. وقد تمكن في عهد ترامب من كسب الموقف الرسمي الأمريكي إلى جانبه بصورة مطلقة، فكانت مشاريع التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية؛ إلى جانب الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل؛ والاعتراف في الوقت عينه بأن الجولان السوري المحتل هو جزء لا يتجزأ من إسرائيل.
ومن المعروف أن جميع هذه الخطوات تجهض الحلول الممكنة، بل تؤدي في واقع الحال إلى التخلي عن حل الدولتين الذي التزمت به إدارة بايدن ومعها الدول الأوروبية الغربية، بوصفه، حسب تقييمها، السبيل الأصعب لتجاوز النزاع الأصعب في تاريخ المنطقة، وربما على المستوى العالمي كله.
أما بالنسبة للموقف الأمريكي الراهن مما جرى ويجري في المنطقة منذ بدايات الحرب على غزة، فهو في الإطار العام لا يخرج عن الموقف الثابت المعهود، وهو المتمفصل حول الالتزام بأمن إسرائيل، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي قاعدة متقدمة حيوية استراتيجيا لأمريكا في المنطقة. ولكن هذا الالتزام لا ينفي وجود تباينات لها علاقة بالاستراتيجيات الخاصة بالولايات المتحدة على صعيد المنطقة تحديداً، وعلى مستوى العالم بصورة عامة. فمن بين الثوابت المتفق عليها بين إسرائيل وأمريكا هو أن تكون لإسرائيل الكلمة الفصل في القرارات الخاصة بترتيب الأمور داخل دول الطوق (سوريا، لبنان، مصر، الأردن، فلسطين). أما الدول الأخرى في المنطقة، ومنها إيران فهي تدخل ضمن المساحات التي تخضع للحسابات الخاصة بالاستراتيجيات الأمريكية ذاتها.
ولكن في مناخات التداخل بين النظام الإيراني وأذرعه العاملة في دول الطوق واليمن، ترى إسرائيل أن من حقها تجاوز حدود دول الطوق، واستهداف إيران نفسها عبر اغتيال القيادات المفصلية، وأصحاب المؤهلات المتميزة، وربما مستقبلاً استهداف بعض المواقع الاستراتيجية، ومنها المفاعلات النووية.
ومن الواضح في هذا المجال هو أن نتنياهو قد أمسك بناصية اللحظة المناسبة بالنسبة إليه في الموقف الأمريكي الذي يتأثر، كما أسلفنا، بواقع الاستقطاب الحاد الحاصل على المستوى الأمريكي الداخلي، والحسابات الانتخابية بين الحزبين المتنافسين: الجمهوري والديمقراطي. ويستغل حاجة الطرفين إلى الأصوات اليهودية والنفوذ اليهودي في مختلف المؤسسات والهيئات والمنظمات الرسمية والشعبية، فيسعى من أجل توظيف الموقف الأمريكي لصالح المشاريع الخاصة به.
غير أنه مع ذلك علينا أن تكون حذرين من الانزلاق نحو اعتماد الشخصنة في تفسير الأحداث التاريخية والتحولات الكبرى؛ هذا مع عدم نفي تأثير الجانب الشخصي بصورة شبه تامة في المعادلة كلها. ولكن في الحالتين الأمريكية والإسرائيلية، تبقى للدولة العميقة المتجسدة في الأجهزة الأمنية والمؤسسات العسكرية الاسترتيجية الكلمة الفصل في تحديد المسارات، لا سيما في مواجهة واقع وجود مخاطر جسيمة تهدد المكانة والريادة، وربما الواقع الوجودي نفسه.
وسوم: العدد 1090